هَذِهِ الْأَخْطَارَ فِي هَذِهِ الْأَسْفَارِ وَلَوْلَا أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّ كُلَّ طَرَفٍ بِشَيْءٍ وَأَحْوَجَ الْكُلَّ إِلَيْهِ لَمَا ارْتَكَبُوا هَذِهِ السُّفُنَ، فَالْحَامِلُ يَنْتَفِعُ بِهِ لِأَنَّهُ يَرْبَحُ وَالْمَحْمُولُ إِلَيْهِ يَنْتَفِعُ بِمَا حُمِلَ إِلَيْهِ. وَسَادِسُهَا: تَسْخِيرُ اللَّهِ الْبَحْرَ لِحَمْلِ الْفُلْكِ مَعَ قُوَّةِ سُلْطَانِ الْبَحْرِ إِذَا هَاجَ، وَعِظَمِ الْهَوْلِ فِيهِ إِذَا أَرْسَلَ اللَّهُ الرِّيَاحَ فَاضْطَرَبَتْ أَمْوَاجُهُ وَتَقَلَّبَتْ مِيَاهُهُ. وَسَابِعُهَا: أَنَّ الْأَوْدِيَةَ الْعِظَامَ، مِثْلَ: جَيْحُونَ، وَسَيْحُونَ، تَنْصَبُّ أَبَدًا إِلَى بُحَيْرَةِ خَوَارِزْمَ عَلَى صِغَرِهَا، ثُمَّ إِنَّ بُحَيْرَةَ خَوَارِزْمَ لَا تَزْدَادُ الْبَتَّةَ وَلَا تَمْتَدُّ، فَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْعَالِمُ بِكَيْفِيَّةِ حَالِ هَذِهِ الْمِيَاهِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي تَنْصَبُّ فِيهَا. وَثَامِنُهَا:
مَا فِي الْبِحَارِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الْعَظِيمَةِ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُخَلِّصُ السُّفُنَ عَنْهَا، وَيُوَصِّلُهَا إِلَى سَوَاحِلِ السَّلَامَةِ.
وَتَاسِعُهَا: مَا فِي الْبِحَارِ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ الْعَجِيبِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيانِ الرَّحْمَنِ: 19- 20 وَقَالَ: هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ فَاطِرٍ: 12 ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بِقُدْرَتِهِ يَحْفَظُ الْبَعْضَ عَنِ الِاخْتِلَاطِ بِالْبَعْضِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يُرْشِدُ الْعُقُولَ وَالْأَلْبَابَ إِلَى افْتِقَارِهَا إِلَى مُدَبِّرٍ يُدَبِّرُهَا وَمُقَدِّرٍ يَحْفَظُهَا.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: دَلَّ قَوْلُهُ فِي صِفَةِ الْفُلْكِ: بِما يَنْفَعُ النَّاسَ عَلَى إِبَاحَةِ رُكُوبِهَا، وَعَلَى إِبَاحَةِ الِاكْتِسَابِ وَالتِّجَارَةِ وَعَلَى الِانْتِفَاعِ بِاللَّذَّاتِ.
النَّوْعُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها الْبَقَرَةِ: 164 .
وَاعْلَمْ أَنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى الصَّانِعِ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ تِلْكَ الْأَجْسَامَ، وَمَا قَامَ بِهَا مِنْ صفات الرقة، والرطوبة، والعذوبة، ولا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى خَلْقِهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، قَالَ سُبْحَانَهُ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ الْمُلْكِ: 30 . وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُ سَبَبًا لِحَيَاةِ الْإِنْسَانِ، وَلِأَكْثَرِ مَنَافِعِهِ قَالَ تَعَالَى:
أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ الْوَاقِعَةِ: 68، 69 وَقَالَ: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ الْأَنْبِيَاءِ: 30 . وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا جَعَلَهُ سَبَبًا لِحَيَاةِ الْإِنْسَانِ، جَعَلَهُ سَبَبًا لِرِزْقِهِ قَالَ تَعَالَى: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ الذَّارِيَاتِ: 22 . وَرَابِعُهَا: أَنَّ السَّحَابَ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْمِيَاهِ الْعَظِيمَةِ، الَّتِي تَسِيلُ مِنْهَا الْأَوْدِيَةُ الْعِظَامُ تَبْقَى مُعَلَّقَةً فِي جَوِّ السَّمَاءِ وَذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْعِظَامِ.
وَخَامِسُهَا: أَنَّ نُزُولَهَا عند التضرع واحتياج الخلق إليه مقدرا بِمِقْدَارِ النَّفْعِ مِنَ الْآيَاتِ الْعِظَامِ، قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً نُوحٍ: 10، 11 . وَسَادِسُهَا:
مَا قَالَ: فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَاطِرٍ: 9 وَقَالَ: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ الْحَجِّ: 5 فَإِنْ قِيلَ: أَفَتَقُولُونَ: إِنَّ الْمَاءَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْ مِنَ السَّحَابِ أَوْ تُجَوِّزُونَ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ الشَّمْسَ تُؤَثِّرُ فِي الْأَرْضِ فَيَخْرُجُ مِنْهَا أَبْخِرَةٌ مُتَصَاعِدَةٌ فَإِذَا وَصَلَتْ إِلَى الْجَوِّ الْبَارِدِ بَرَدَتْ فَثَقُلَتْ فَنَزَلَتْ مِنْ فَضَاءِ الْمُحِيطِ إِلَى ضِيقِ الْمَرْكَزِ، فَاتَّصَلَتْ فَتَوَلَّدَتْ مِنِ اتِّصَالِ بَعْضِ تِلْكَ الذَّرَّاتِ بِالْبَعْضِ قَطَرَاتٌ هِيَ قَطَرَاتُ الْمَطَرِ.
قُلْنَا: بَلْ نَقُولُ إِنَّهُ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ الصَّادِقُ فِي خَبَرِهِ، وَإِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى إِمْسَاكِ الْمَاءِ فِي السَّحَابِ، فَأَيُّ بُعْدٍ فِي أَنْ يُمْسِكَهُ فِي السَّمَاءِ، فَأَمَّا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ مِنْ بِحَارِ الْأَرْضِ فَهَذَا مُمْكِنٌ فِي نَفْسِهِ، لَكِنَّ الْقَطْعَ بِهِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بَعْدَ الْقَوْلِ بِنَفْيِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، وَقِدَمِ الْعَالَمِ، وَذَلِكَ كُفْرٌ، لِأَنَّا مَتَى جَوَّزْنَا