الْبَحْثُ الرَّابِعُ: لَمَّا عَرَفْتَ أَنَّ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا قُرِئَ تَارَةً بِالتَّاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ فَوْقُ وَأُخْرَى بِالْيَاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ تَحْتُ، وَقَوْلُهُ: أَنَّ الْقُوَّةَ قُرِئَ تَارَةً بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مِنْ (أَنَّ) وأخرى بكسرها حصل هاهنا أَرْبَعُ احْتِمَالَاتٍ.
الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ: أَنْ يُقْرَأَ وَلَوْ يَرَى بِالْيَاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ تَحْتُ مَعَ فَتْحِ الْهَمْزَةِ مِنْ (أَنَّ) وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّهُمْ أَعْمَلُوا يَرَوْنَ فِي الْقُوَّةِ وَالتَّقْدِيرُ: وَلَوْ يَرَوْنَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ: وَمَعْنَاهُ، وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا شِدَّةَ عَذَابِ اللَّهِ وَقُوَّتَهُ لَمَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَنْدَادًا فَعَلَى هَذَا جَوَابُ (لَوْ) مَحْذُوفٌ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي التَّنْزِيلِ كَقَوْلِهِ: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ الْأَنْعَامِ: 27 ، وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ الْأَنْعَامِ: 93 ، وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ الرَّعْدِ: 31 وَيَقُولُونَ: لَوْ رَأَيْتَ فُلَانَا وَالسِّيَاطُ تَأْخُذُ مِنْهُ، قَالُوا: وَهَذَا الْحَذْفُ أَفْخَمُ وَأَعْظَمُ لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَذْهَبُ خَاطِرُ الْمُخَاطَبِ إِلَى كُلِّ ضَرْبٍ مِنَ الْوَعِيدِ فَيَكُونُ الْخَوْفُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ مِمَّا إِذَا كَانَ عُيِّنَ لَهُ ذَلِكَ الْوَعِيدُ.
الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: أَنْ يُقْرَأَ بِالْيَاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ تَحْتُ مَعَ كَسْرِ الْهَمْزَةِ مِنْ (إِنَّ) وَالتَّقْدِيرُ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا عَجْزَهُمْ حَالَ مُشَاهَدَتِهِمْ عَذَابَ اللَّهِ لَقَالُوا: إِنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ.
الِاحْتِمَالُ الثَّالِثُ: أَنْ تُقْرَأَ بِالتَّاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ فَوْقُ، مَعَ فَتْحِ الْهَمْزَةِ مِنْ (أَنَّ) وَهِيَ قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ قَالَ الْفَرَّاءُ: الْوَجْهُ فِيهِ تَكْرِيرُ الرُّؤْيَةِ وَالتَّقْدِيرُ فِيهِ وَلَوْ تَرَى الَّذِينَ ظلموا إذا يَرَوْنَ الْعَذَابَ تَرَى أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا.
الِاحْتِمَالُ الرَّابِعُ: أَنْ يُقْرَأَ بِالتَّاءِ الْمَنْقُوطَةِ مِنْ فَوْقُ، مَعَ كَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَتَقْدِيرُهُ: وَلَوْ تَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ لَقُلْتَ إِنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، وَهَذَا أَيْضًا تَأْوِيلٌ ظَاهِرٌ جَيِّدٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَاءَ قَوْلُهُ: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا وَهُوَ مُسْتَقْبَلٌ مَعَ قَوْلِهِ: إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ وَ (إِذْ) لِلْمَاضِي؟ قُلْنَا: إِنَّمَا جَاءَ عَلَى لَفْظِ الْمُضِيِّ لِأَنَّ وُقُوعَ السَّاعَةِ قَرِيبٌ، قَالَ تَعَالَى: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ النَّحْلِ: 77 وَقَالَ: لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ الشُّورَى: 17 وَكُلُّ مَا كَانَ قَرِيبَ الْوُقُوعِ فَإِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى مَا وَقَعَ وَحَصَلَ وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ قَالَ تَعَالَى: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ الْأَعْرَافِ: 44 وَقَوْلُ الْمُقِيمِ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ يَقُولُ ذَلِكَ قَبْلَ إِيقَاعِهِ التَّحْرِيمَ لِلصَّلَاةِ لِقُرْبِ ذَلِكَ وَقَدْ جَاءَ كَثِيرٌ فِي التَّنْزِيلِ مِنْ هَذَا الْبَابِ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا الْأَنْعَامِ: 27 ، وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ سبأ: 31 ، وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا سَبَأٍ: 51 ، وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الأنفال: 50 .
سورة البقرة (2) : الآيات 166 الى 167إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ حَالَ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا بِقَوْلِهِ: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ البقرة: 165 عَلَى طَرِيقِ التَّهْدِيدِ زَادَ فِي هَذَا الْوَعِيدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا فَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِينَ أَفْنَوْا عُمْرَهُمْ عَلَى عِبَادَتِهِمْ وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ أَوْكَدُ أَسْبَابِ نَجَاتِهِمْ فإنهم يتبرءون