يَتَنَاوَلُ مُقَلِّدَ الْحَقِّ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُقَلِّدًا لِلْحَقِّ لَكِنَّهُ قَالَ مَا لَا يَعْلَمُهُ فَصَارَ مُسْتَحِقًّا لِلذَّمِّ لِانْدِرَاجِهِ تَحْتَ الذَّمِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: تَمَسَّكَ نُفَاةُ الْقِيَاسِ بِقَوْلِهِ: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّهُ مَتَى قَامَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ بِالْقِيَاسِ وَاجِبٌ كَانَ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ قَوْلًا عَلَى اللَّهِ بِمَا يَعْلَمُ لَا بِمَا لا يعلم.
سورة البقرة (2) : آية 170وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (170)
اعْلَمْ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: لَهُمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى «مَنْ» فِي قَوْلِهِ:
مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً الْبَقَرَةِ: 165 وَهُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُمْ. وَثَانِيهَا: يَعُودُ عَلَى «الناس» في قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ البقرة: 21 فَعَدَلَ عَنِ الْمُخَاطَبَةِ إِلَى الْمُغَايَبَةِ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ مُبَالَغَةً فِي بَيَانِ ضَلَالِهِمْ، كَأَنَّهُ يَقُولُ لِلْعُقَلَاءِ: انْظُرُوا إِلَى هَؤُلَاءِ الْحَمْقَى مَاذَا يَقُولُونَ. وَثَالِثُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، وَذَلِكَ حِينَ دَعَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَقَالُوا: نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا، فَهُمْ كانوا خير مِنَّا، وَأَعْلَمَ مِنَّا، فَعَلَى هَذَا الْآيَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَالْكِنَايَةُ فِي لَهُمُ تَعُودُ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ، إِلَّا أَنَّ الضَّمِيرَ قَدْ يَعُودُ عَلَى الْمَعْلُومِ، كَمَا يَعُودُ عَلَى الْمَذْكُورِ، ثُمَّ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْكِسَائِيُّ يُدْغِمُ لَامَ «هَلْ» وَ «بَلْ» فِي ثَمَانِيَةِ أَحْرُفٍ: التَّاءُ كَقَوْلِهِ: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْأَعْلَى: 16 وَالنُّونُ بَلْ نَتَّبِعُ وَالثَّاءُ هَلْ ثُوِّبَ الْمُطَفِّفِينَ: 36 وَالسِّينُ بَلْ سَوَّلَتْ يُوسُفَ: 18 وَالزَّايُ بَلْ زُيِّنَ الرَّعْدِ: 33 وَالضَّادُ بَلْ ضَلُّوا الْأَحْقَافِ: 28 وَالظَّاءُ بَلْ ظَنَنْتُمْ وَالطَّاءُ بَلْ طَبَعَ النِّسَاءِ: 155 وَأَكْثَرُ الْقُرَّاءِ عَلَى الْإِظْهَارِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُوَافِقُهُ فِي الْبَعْضِ، وَالْإِظْهَارُ هُوَ الْأَصْلُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَلْفَيْنا بِمَعْنَى وَجَدْنَا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا لُقْمَانَ: 21 وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ يُوسُفَ: 25 وَقَوْلُهُ: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ الصَّافَّاتِ: 69 .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّه مِنَ الدَّلَائِلِ الْبَاهِرَةِ فَهُمْ قَالُوا لَا نَتَّبِعُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا نَتَّبِعُ آبَاءَنَا وَأَسْلَافَنَا، فَكَأَنَّهُمْ عَارَضُوا الدَّلَالَةَ بِالتَّقْلِيدِ، وَأَجَابَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْوَاوُ فِي أَوَلَوْ وَاوُ الْعَطْفِ، دَخَلَتْ عَلَيْهَا هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ الْمَنْقُولَةُ إِلَى مَعْنَى التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ، وَإِنَّمَا جُعِلَتْ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ لِلتَّوْبِيخِ، لِأَنَّهَا تَقْتَضِي الْإِقْرَارَ بِشَيْءٍ يَكُونُ الْإِقْرَارُ بِهِ فَضِيحَةً، كَمَا يَقْتَضِي الِاسْتِفْهَامُ الْإِخْبَارَ عَنِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَقْرِيرُ هَذَا الْجَوَابِ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يُقَالَ لِلْمُقَلِّدِ: هَلْ تَعْتَرِفُ بِأَنَّ شَرْطَ جَوَازِ تَقْلِيدِ الْإِنْسَانِ أَنْ يَعْلَمَ كَوْنَهُ مُحِقًّا أَمْ لَا؟ فَإِنِ اعْتَرَفْتَ بِذَلِكَ لَمْ نَعْلَمْ جَوَازَ تَقْلِيدِهِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ تَعْرِفَ كَوْنَهُ مُحِقًّا، فَكَيْفَ عَرَفْتَ أَنَّهُ مُحِقٌّ؟ وَإِنْ عَرَفْتَهُ بِتَقْلِيدِ آخَرَ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَإِنْ عَرَفْتَهُ بِالْعَقْلِ فَذَاكَ كَافٍ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّقْلِيدِ، وَإِنْ قُلْتَ:
لَيْسَ مِنْ شَرْطِ جَوَازِ تَقْلِيدِهِ أَنْ يُعْلَمَ/ كَوْنُهُ مُحِقًّا، فَإِذَنْ قَدْ جَوَّزْتَ تَقْلِيدَهُ، وَإِنْ كَانَ مُبْطِلًا فَإِذَنْ أَنْتَ عَلَى