الْفِعْلَ أَوْلَى مِنَ الْمَفْعُولِ، وَمَنْ نَصَبَ الْبِرَّ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ بَعْضَ النَّحْوِيِّينَ قَالَ: أَنَّ مَعَ صِلَتِهَا أَوْلَى أَنْ تَكُونَ اسْمَ لَيْسَ لشبهها بالضمير فِي أَنَّهَا لَا تُوصَفُ كَمَا لَا يُوصَفُ المضمر، فكان هاهنا اجْتَمَعَ مُضْمَرٌ وَمُظْهَرٌ، وَالْأَوْلَى إِذَا اجْتَمَعَا أَنْ يَكُونَ الْمُضْمَرُ/ الِاسْمَ مِنْ حَيْثُ كَانَ أَذْهَبَ فِي الِاخْتِصَاصِ مِنَ الْمُظْهَرِ، وَعَلَى هَذَا قُرِئَ فِي التَّنْزِيلِ قَوْلُهُ: فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ الْحَشْرِ: 12 وَقَوْلِهِ: ما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا الْأَعْرَافِ: 82 وما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا الْجَاثِيَةِ: 25 وَالِاخْتِيَارُ رَفْعُ الْبِرِّ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ: لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ وَالْبَاءُ تَدْخُلُ فِي خَبَرِ لَيْسَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْبِرُّ اسْمٌ جَامِعٌ لِلطَّاعَاتِ، وَأَعْمَالِ الْخَيْرِ الْمُقَرِّبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْ هَذَا بِرُّ الْوَالِدَيْنِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ الِانْفِطَارِ: 13- 14 فَجَعَلَ الْبِرَّ ضِدَّ الْفُجُورِ وَقَالَ: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ الْمَائِدَةِ: 2 فَجَعَلَ الْبِرَّ ضِدَّ الْإِثْمِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ عَامٌّ لِجَمِيعِ مَا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ وَأَصْلُهُ مِنَ الِاتِّسَاعِ وَمِنْهُ الْبَرُّ الَّذِي هُوَ خِلَافُ الْبَحْرِ لِاتِّسَاعِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الْقَفَّالُ: قَدْ قِيلَ فِي نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَقْوَالٌ، وَالَّذِي عِنْدَنَا أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى السُّفَهَاءِ الَّذِينَ طَعَنُوا فِي الْمُسْلِمِينَ وَقَالُوا: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا مَعَ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَسْتَقْبِلُونَ الْمَغْرِبَ، وَالنَّصَارَى كَانُوا يَسْتَقْبِلُونَ الْمَشْرِقَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ صِفَةَ الْبِرِّ لَا تَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ اسْتِقْبَالِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، بَلِ الْبِرُّ لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ مَجْمُوعِ أُمُورٍ أَحَدُهَا: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَأَهْلُ الْكِتَابِ أخلوا بذلك، أما اليهود فقولهم:
بِالتَّجْسِيمِ وَلِقَوْلِهِمْ: بِأَنَّ عُزَيْرًا ابْنُ اللَّهِ، وَأَمَّا النَّصَارَى، فَقَوْلُهُمْ: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وَلِأَنَّ الْيَهُودَ وَصَفُوا اللَّهَ تَعَالَى بِالْبُخْلِ، عَلَى مَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ آلِ عِمْرَانَ: 181 وَثَانِيهَا: الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْيَهُودُ أَخَلُّوا بِهَذَا الْإِيمَانِ حيث قالوا: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى الْبَقَرَةِ: 111 وَقَالُوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً الْبَقَرَةِ: 80 وَالنَّصَارَى أَنْكَرُوا الْمَعَادَ الْجُسْمَانِيَّ، وَكُلُّ ذَلِكَ تَكْذِيبٌ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَثَالِثُهَا: الْإِيمَانُ بِالْمَلَائِكَةِ، وَالْيَهُودُ أَخَلُّوا ذَلِكَ حَيْثُ أَظْهَرُوا عَدَاوَةَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَابِعُهَا: الْإِيمَانُ بِكُتُبِ اللَّهِ، وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَدْ أَخَلُّوا بِذَلِكَ، لِأَنَّ مَعَ قِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كِتَابُ اللَّهِ رَدُّوهُ وَلَمْ يَقْبَلُوهُ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ الْبَقَرَةِ: 85 وَخَامِسُهَا: الْإِيمَانُ بِالنَّبِيِّينَ وَالْيَهُودُ أَخَلُّوا بِذَلِكَ حَيْثُ قَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ، عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ الْبَقَرَةِ: 61 وَحَيْثُ طَعَنُوا فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَادِسُهَا: بَذْلُ الْأَمْوَالِ عَلَى وَفْقِ أَمْرِ الله سبحانه واليهود وأخلوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يُلْقُونَ الشُّبُهَاتِ لِطَلَبِ الْمَالِ الْقَلِيلِ كما قال وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا البقرة: 187 وَسَابِعُهَا: إِقَامَةُ الصَّلَوَاتِ وَالزَّكَوَاتُ وَالْيَهُودُ كَانُوا يَمْنَعُونَ النَّاسَ مِنْهَا وَثَامِنُهَا: الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ، وَالْيَهُودُ نَقَضُوا العهد حيث قال: أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ البقرة:
40 وهاهنا سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى نَفَى أَنْ يَكُونَ التَّوَجُّهُ إِلَى الْقِبْلَةِ بِرًّا ثُمَّ حَكَمَ بِأَنَّ الْبِرَّ مَجْمُوعُ أُمُورٍ أَحَدُهَا الصَّلَاةُ وَلَا بُدَّ فِيهَا مِنِ اسْتِقْبَالٍ فَيَلْزَمُ التَّنَاقُضُ وَلِأَجْلِ هَذَا السُّؤَالِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَقْوَالٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ:
لَيْسَ الْبِرَّ نَفْيٌ لِكَمَالِ الْبِرِّ وَلَيْسَ نَفْيًا لِأَصْلِهِ كَأَنَّهُ قَالَ لَيْسَ الْبِرَّ كُلَّهُ هُوَ هَذَا، الْبِرُّ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ وَاحِدٌ مِنْهَا، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ/ تَمَامَ الْبِرِّ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ هَذَا نَفْيًا لِأَصْلِ كَوْنِهِ بِرًّا، لِأَنَّ اسْتِقْبَالَهُمْ لِلْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ كَانَ خَطَأً فِي وَقْتِ النَّفْيِ حِينَ مَا نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ، بَلْ كَانَ ذَلِكَ إثماً وفجوراً