لِأَنَّهُ عَمَلٌ بِمَنْسُوخٍ قَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَا يَكُونُ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ فِي الْبِرِّ الثَّالِثُ: أَنَّ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ لَا يَكُونُ بِرًّا إِذَا لَمْ يُقَارِنْهُ مَعْرِفَةُ اللَّهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِرًّا إِذَا أُتِيَ بِهِ مَعَ الْإِيمَانِ، وَسَائِرِ الشَّرَائِطِ كَمَا أَنَّ السَّجْدَةَ لَا تَكُونُ مِنْ أَفْعَالِ الْبِرِّ، إِلَّا إِذَا أُتِيَ بِهَا مَعَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَأَمَّا إِذَا أُتِيَ بِهَا بِدُونِ هَذَا الشَّرْطِ، فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ مِنْ أَفْعَالِ الْبِرِّ،
رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ كَثُرَ الْخَوْضُ فِي نَسْخِهَا وَصَارَ كَأَنَّهُ لَا يُرَاعَى بِطَاعَةِ اللَّهِ إِلَّا الِاسْتِقْبَالُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ مَا هَذَا الْخَوْضُ الشَّدِيدُ فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنْ كُلِّ أَرْكَانِ الدِّينِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ فِيهِ حَذْفٌ وَفِي كَيْفِيَّتِهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: وَلَكِنَّ الْبِرَّ بِرُّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ كَقَوْلِهِ: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ الْبَقَرَةِ: 93 أَيْ حُبَّ الْعِجْلِ، وَيَقُولُونَ: الْجُودُ حَاتِمٌ وَالشِّعْرُ زُهَيْرٌ، وَالشَّجَاعَةُ عَنْتَرَةُ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ، وَالزَّجَّاجِ، وَقُطْرُبٍ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ التَّوْبَةِ: 19 ثُمَّ قَالَ كَمَنْ آمَنَ التَّوْبَةِ: 19 وَتَقْدِيرُهُ، أَجَعَلْتُمْ أَهْلَ سِقَايَةِ الْحَاجِّ كَمَنْ آمَنَ، أَوْ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ كَإِيمَانِ مَنْ آمَنَ لِيَقَعَ التمثيل بين مصدرين أو بين فاعلين، إذا لَا يَقَعُ التَّمْثِيلُ بَيْنَ مَصْدَرٍ وَفَاعِلٍ وَثَانِيهَا: قال أبو عبيدة البر هاهنا بِمَعْنَى الْبَاءِ كَقَوْلِهِ:
وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى طه: 132 أَيْ لِلْمُتَّقِينَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً الْمُلْكِ: 30 أَيْ غَائِرًا، وَقَالَتِ الْخَنْسَاءُ:
فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارُ
أَيْ مُقْبِلَةٌ وَمُدْبِرَةٌ مَعًا وَثَالِثُهَا: أَنَّ مَعْنَاهُ وَلَكِنَّ ذَا الْبِرِّ فَحُذِفَ كَقَوْلِهِمْ: هم درجات عند الله أي ذووا دَرَجَاتٍ عَنِ الزَّجَّاجِ وَرَابِعُهَا: التَّقْدِيرُ وَلَكِنَّ الْبِرَّ يَحْصُلُ بِالْإِيمَانِ وَكَذَا وَكَذَا عَنِ الْمُفَصَّلِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ أَقْرَبُ إِلَى مَقْصُودِ الْكَلَامِ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: وَلَكِنَّ الْبِرَّ الَّذِي هُوَ كُلُّ الْبِرِّ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الثَّوَابِ الْعَظِيمِ بِرُّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ، وَعَنِ الْمُبَرِّدِ: لَوْ كُنْتُ مِمَّنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ بِقِرَاءَتِهِ لَقَرَأْتُ وَلكِنَّ الْبِرَّ بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَلَكِنِ مُخَفَّفَةً الْبِرُّ بِالرَّفْعِ، وَالْبَاقُونَ لكِنَّ مُشَدَّدَةً الْبِرَّ بِالنَّصْبِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اعتبر في تحقق ماهية البر أموراًالأول: الْإِيمَانُ بِأُمُورٍ خَمْسَةٍ أَوَّلُهَا:
الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَلَنْ يَحْصُلَ الْعِلْمُ بِاللَّهِ إِلَّا عِنْدَ الْعِلْمِ بِذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ وَالْعِلْمِ بِمَا يَجِبُ وَيَجُوزُ وَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ، وَلَنْ يَحْصُلَ الْعِلْمُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ إِلَّا عِنْدَ الْعِلْمِ بِالدَّلَالَةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا فَيَدْخُلُ فِيهِ الْعِلْمُ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ، وَالْعِلْمُ بِالْأُصُولِ الَّتِي عَلَيْهَا يَتَفَرَّعُ حُدُوثُ الْعَالَمِ، وَيَدْخُلُ فِي الْعِلْمِ بِمَا يَجِبُ لَهُ مِنَ الصِّفَاتِ الْعِلْمُ بِوُجُودِهِ وَقِدَمِهِ وَبَقَائِهِ، وَكَوْنِهِ عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، قَادِرًا عَلَى كُلِّ الممكنات/ حياً مريداً سمعياً بَصِيرًا مُتَكَلِّمًا، وَيَدْخُلُ فِي الْعِلْمِ بِمَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ مُنَزَّهًا عَنِ الْحَالِيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ وَالتَّحَيُّزِ وَالْعَرَضِيَّةِ، وَيَدْخُلُ فِي الْعِلْمِ بِمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ اقْتِدَارُهُ عَلَى الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ وَبَعْثَةِ الرُّسُلِ وَثَانِيهَا: الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَهَذَا الْإِيمَانُ مُفَرَّعٌ عَلَى الْأَوَّلِ، لِأَنَّا مَا لَمْ نَعْلِمْ كَوْنَهُ تَعَالَى عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ وَلَمْ نَعْلَمْ قُدْرَتَهُ عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ لَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَعْلَمَ صِحَّةَ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَثَالِثُهَا: الْإِيمَانُ بِالْمَلَائِكَةِ وَرَابِعُهَا: الإيمان بالكتب وخامسها: الإيمان بالرسل، وهاهنا سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: إِنَّهُ لَا طَرِيقَ لَنَا إِلَى الْعِلْمِ بِوُجُودِ الْمَلَائِكَةِ وَلَا إِلَى الْعِلْمِ بِصِدْقِ الْكُتُبِ إِلَّا بِوَاسِطَةِ صِدْقِ الرُّسُلِ