وَالْكَافِرَ،
رَوَى الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «لِلسَّائِلِ حق ولو جاء على فرس»
وقال تعالى: فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ الْمَعَارِجِ: 24، 25 .
أَمَّا قَوْلُهُ: وَفِي الرِّقابِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الرِّقابِ جَمْعُ الرَّقَبَةِ وَهِيَ مُؤَخَّرُ أَصْلِ الْعُنُقِ، وَاشْتِقَاقُهَا مِنَ الْمُرَاقَبَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَكَانَهَا مِنَ الْبَدَنِ مَكَانُ الرَّقِيبِ الْمُشْرِفِ عَلَى الْقَوْمِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى يُقَالُ: أَعْتَقَ اللَّهُ رَقَبَتَهُ/ وَلَا يُقَالُ أَعْتَقَ اللَّهُ عُنُقَهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا سُمِّيَتْ رَقَبَةً كَأَنَّهَا تُرَاقِبُ الْعَذَابَ، وَمِنْ هَذَا يُقَالُ لِلَّتِي لَا يَعِيشُ وَلَدُهَا: رَقُوبٌ، لِأَجْلِ مُرَاعَاتِهَا مَوْتَ وَلَدِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَعْنَى الْآيَةِ: وَيُؤْتِي الْمَالَ فِي عِتْقِ الرِّقَابِ، قَالَ الْقَفَّالُ: وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الرِّقَابِ الْمَذْكُورِينَ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ، فَقَالَ قَائِلُونَ: إِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ يَشْتَرِيهِ فَيُعْتِقُهُ، وَمَنْ يَكُونُ مُكَاتِبُهَا فَيُعِينُهُ عَلَى أَدَاءِ كِتَابَتِهِ، فَهَؤُلَاءِ أَجَازُوا شِرَاءَ الرِّقَابِ مِنَ الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَقَالَ قَائِلُونَ: لَا يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إِلَّا فِي إِعَانَةِ الْمُكَاتِبِينَ، فَمَنْ تَأَوَّلَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ فَحِينَئِذٍ يَبْقَى فِيهِ ذَلِكَ الِاخْتِلَافُ، وَمَنْ حَمَلَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى غَيْرِ الزَّكَاةِ أَجَازَ الْأَمْرَيْنِ فِيهَا قَطْعًا، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ حَمَلَ الْآيَةَ عَلَى وَجْهٍ ثَالِثٍ وَهُوَ فِدَاءُ الْأُسَارَى.
وَاعْلَمْ أَنَّ تَمَامَ الْكَلَامِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْأَصْنَافِ سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ فِي تَفْسِيرِ الصَّدَقَاتِ.
الْأَمْرُ الثَّالِثُ: مِنَ الْأُمُورِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي تحقق ماهية البر قوله: وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَذَلِكَ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ.
الْأَمْرُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي رَفْعِ وَالْمُوفُونَ قَوْلَانِ أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى مَحَلِّ مَنْ آمَنَ تَقْدِيرُهُ لَكِنَّ الْبِرَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُوفُونَ، عَنِ الْفَرَّاءِ وَالْأَخْفَشِ الثَّانِي: رَفْعٌ عَلَى الْمَدْحِ عَلَى أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ:
وَهُمُ الْمُوفُونَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْمُرَادِ بِهَذَا الْعَهْدِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا أَخَذَهُ اللَّهُ مِنَ الْعُهُودِ عَلَى عِبَادِهِ بِقَوْلِهِمْ، وَعَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ إِلَيْهِمْ بِالْقِيَامِ بِحُدُودِهِ، وَالْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ، فَقَبِلَ الْعِبَادُ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ آمَنُوا بِالْأَنْبِيَاءِ وَالْكُتُبِ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ نَقَضُوا الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ وَأَمَرَهُمْ بِالْوَفَاءِ بِهَا فَقَالَ: يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ الْبَقَرَةِ: 40 فَكَانَ الْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْبِرَّ هُوَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَعْمَالِ مَعَ الْوَفَاءِ بِعَهْدِ اللَّهِ، لَا كَمَا نَقَضَ أَهْلُ الْكِتَابِ مِيثَاقَ اللَّهِ وَمَا وَفَّوْا بِعُهُودِهِ فَجَحَدُوا أَنْبِيَاءَهُ وَقَتَلُوهُمْ وَكَذَّبُوا بِكِتَابِهِ، وَاعْتَرَضَ الْقَاضِي عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَقَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ صَرِيحٌ فِي إِضَافَةِ هَذَا الْعَهْدِ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِذا عاهَدُوا فَلَا وَجْهَ لِحَمْلِهِ عَلَى مَا سَيَكُونُ لُزُومُهُ ابْتِدَاءً مِنْ قِبَلِهِ تَعَالَى.
الْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَإِنْ أَلْزَمَهُمْ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَكِنَّهُمْ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ قَبِلُوا ذَلِكَ الْإِلْزَامَ وَالْتَزَمُوهُ، فَصَحَّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ إِضَافَةُ الْعَهْدِ إِلَيْهِمْ.