فَقَالَ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ عَائِدٌ إِلَى الصَّوْمِ فَأَثْبَتَ الْقُدْرَةَ عَلَى الصَّوْمِ حَالَ عَدَمِ الصَّوْمِ، لِأَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْفِدْيَةَ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ إِذَا لَمْ يَصُمْ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الصَّوْمِ حَاصِلَةٌ قَبْلَ حُصُولِ الصَّوْمِ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضمير عائد إِلَى الْفِدْيَةِ؟
/ قُلْنَا لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفِدْيَةَ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ مِنْ قَبْلُ فَكَيْفَ يَرْجِعُ الضَّمِيرُ إِلَيْهَا وَالثَّانِي: أَنَّ الضَّمِيرَ مُذَكَّرٌ وَالْفِدْيَةَ مُؤَنَّثَةٌ، فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ فَكَيْفَ يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا قُلْنَا: كَانَتْ قَبْلَ أَنْ صَارَتْ مَنْسُوخَةً دَالَّةً عَلَى أَنَّ الْقُدْرَةَ حَاصِلَةٌ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَالْحَقَائِقُ لَا تَتَغَيَّرُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنْ يُطْعِمَ مِسْكِينًا أَوْ أَكْثَرَ وَالثَّانِي:
أَنْ يُطْعِمَ الْمِسْكِينَ الْوَاحِدَ أَكْثَرَ مِنَ الْقَدْرِ الْوَاجِبِ وَالثَّالِثُ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: مَنْ صَامَ مَعَ الْفِدْيَةِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ هَذَا خِطَابًا مَعَ الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فَقَطْ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَأَنْ تَصُومُوا أَيُّهَا الْمُطِيقُونَ أَوِ الْمُطَوَّقُونَ وَتَحَمَّلْتُمُ الْمَشَقَّةَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ الْفِدْيَةِ وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا خِطَابٌ مَعَ كُلِّ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، أَعْنِي الْمَرِيضَ وَالْمُسَافِرَ وَالَّذِينَ يُطِيقُونَهُ، وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌ، وَلَا يَلْزَمُ مِنِ اتِّصَالِهِ بِقَوْلِهِ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ مُخْتَصًّا بِهِمْ، لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ وَلَا مُنَافَاةَ فِي رُجُوعِهِ إِلَى الْكُلِّ، فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِذَلِكَ وَعِنْدَ هَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْإِضْمَارِ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَأَنَّ التَّقْدِيرَ: فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ عَطْفًا عَلَيْهِ عَلَى أَوَّلِ الْآيَةِ فَالتَّقْدِيرُ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ.
أَمَّا قَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَيْ أَنَّ الصَّوْمَ عَلَيْكُمْ فَاعْلَمُوا صِدْقَ قَوْلِنَا وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ الثَّانِي: أَنَّ آخِرَ الْآيَةِ مُتَعَلِّقٌ بِأَوَّلِهَا وَالتَّقْدِيرُ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَيْ أَنَّكُمْ إِذَا تَدَبَّرْتُمْ عَلِمْتُمْ مَا فِي الصَّوْمِ مِنَ الْمَعَانِي الْمُوَرِّثَةِ لِلتَّقْوَى وَغَيْرِهَا مِمَّا ذَكَرْنَاهُ فِي صَدْرِ هَذِهِ الْآيَةِ الثَّالِثُ: أَنَّ الْعَالِمَ بِاللَّهِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ فِي قَلْبِهِ خَشْيَةُ اللَّهِ عَلَى مَا قَالَ: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ فَاطِرٍ: 28 فَذَكَرَ الْعِلْمَ وَالْمُرَادُ الْخَشْيَةُ، وَصَاحِبُ الْخَشْيَةِ يُرَاعِي الِاحْتِيَاطَ وَالِاحْتِيَاطُ فِي فِعْلِ الصَّوْمِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ اللَّهَ حَتَّى تخشونه كان الصوم خيرا لكم.
سورة البقرة (2) : آية 185شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الشَّهْرُ مَأْخُوذٌ مِنَ الشُّهْرَةِ يُقَالُ، شَهَرَ الشَّيْءُ يَشْهَرُ شُهْرَةً وَشَهْرًا إِذَا ظَهَرَ، وَسُمِّيَ الشَّهْرُ شَهْرًا لِشُهْرَةِ أَمْرِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ حَاجَاتِ النَّاسِ مَاسَّةٌ إِلَى مَعْرِفَتِهِ بِسَبَبِ أَوْقَاتِ دُيُونِهِمْ، وَقَضَاءِ نُسُكِهِمْ في صومهم