الْعُقَلَاءِ، وَأَوْصَافُ الْوَاصِفِينَ، وَذِكْرُ الذَّاكِرِينَ، ثُمَّ يَعْلَمَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَعَ جَلَالِهِ وَعِزَّتِهِ وَاسْتِغْنَائِهِ عَنْ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، فَضْلًا عَنْ هَذَا الْمِسْكِينِ خَصَّهُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْهِدَايَةِ الْعَظِيمَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ دَاعِيًا لِلْعَبْدِ إِلَى الِاشْتِغَالِ بِشُكْرِهِ، وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَى الثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِمِقْدَارِ قُدْرَتِهِ وَطَاقَتِهِ فلهذا قال: وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
سورة البقرة (2) : آية 186وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي كَيْفِيَّةِ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ بعض إِيجَابِ فَرْضِ الصَّوْمِ وَبَيَانِ أَحْكَامِهِ: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ الْبَقَرَةِ: 185 فَأَمَرَ العبد بعد التكبير الَّذِي هُوَ الذِّكْرُ وَبِالشُّكْرِ، بَيَّنَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ بِلُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ قَرِيبٌ مِنَ الْعَبْدِ مُطَّلِعٌ عَلَى ذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ فَيَسْمَعُ نِدَاءَهُ، وَيُجِيبُ دُعَاءَهُ، وَلَا يُخَيِّبُ رَجَاءَهُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَمَرَ بِالتَّكْبِيرِ أَوَّلًا ثُمَّ رَغَّبَهُ فِي الدُّعَاءِ ثَانِيًا، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِالثَّنَاءِ الْجَمِيلِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَرَادَ الدُّعَاءَ قَدَّمَ عَلَيْهِ الثَّنَاءَ، فَقَالَ أَوَّلًا:
الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ الشُّعَرَاءِ: 78 إِلَى قَوْلِهِ: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ الشُّعَرَاءِ:
82 وَكُلُّ هَذَا ثَنَاءٌ مِنْهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ شَرَعَ بَعْدَهُ فِي الدُّعَاءِ فَقَالَ: رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ الشُّعَرَاءِ: 83 فكذا هاهنا أَمَرَ بِالتَّكْبِيرِ أَوَّلًا ثُمَّ شَرَعَ بَعْدَهُ فِي الدُّعَاءِ ثَانِيًا الثَّالِثُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا فَرَضَ عَلَيْهِمُ الصِّيَامَ كَمَا فَرَضَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا نَامُوا حَرُمَ عَلَيْهِمْ مَا يَحْرُمُ عَلَى الصَّائِمِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِهِمْ حَتَّى عَصَوُا اللَّهَ فِي ذَلِكَ التَّكْلِيفِ، ثُمَّ نَدِمُوا وَسَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَوْبَتِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ مُخْبِرًا لَهُمْ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِمْ، وَنَسَخَ ذَلِكَ التَّشْدِيدَ بِسَبَبِ دُعَائِهِمْ وَتَضَرُّعِهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: مَا
رُوِيَ عَنْ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ، قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا رَبِّ أَقَرِيبٌ أَنْتَ فَأُنَاجِيكَ، أَمْ بَعِيدٌ فَأُنَادِيكَ؟ فَقَالَ: يَا مُوسَى أَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي، قَالَ: يَا رَبِّ فَإِنَّا نَكُونُ عَلَى حَالَةِ نَجِلُّكَ أَنْ نَذْكُرَكَ عَلَيْهَا مِنْ جَنَابَةٍ وَغَائِطٍ، قَالَ: يَا مُوسَى اذْكُرْنِي عَلَى كُلِّ حَالٍ،
فَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ رَغَّبَ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ فِي ذِكْرِهِ وَفِي الرُّجُوعِ إِلَيْهِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ وَثَانِيهَا: أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَقَرِيبٌ رَبُّنَا فَنُنَاجِيهِ، أَمْ بَعِيدٌ فَنُنَادِيهِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ وَثَالِثُهَا:
أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ فِي غَزْوَةٍ وَقَدْ رَفَعَ أَصْحَابُهُ أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ وَالدُّعَاءِ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
«إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا»
وَرَابِعُهَا: مَا
رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَغَيْرِهِ أَنَّ سَبَبَهُ أَنَّ الصَّحَابَةَ قَالُوا: كَيْفَ نَدْعُو رَبَّنَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ فَأَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ
وَخَامِسُهَا: قَالَ عَطَاءٌ وَغَيْرُهُ: إِنَّهُمْ سَأَلُوهُ فِي أَيِّ سَاعَةٍ نَدْعُو اللَّهَ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ وَسَادِسُهَا: مَا
ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَهُوَ أَنَّ يَهُودَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ كَيْفَ يَسْمَعُ رَبُّكَ دُعَاءَنَا؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
وَسَابِعُهَا:
قَالَ الْحَسَنُ: سَأَلَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: أَيْنَ رَبُّنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ
وَثَامِنُهَا: مَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ البقرة: 183 لَمَّا اقْتَضَى تَحْرِيمَ الْأَكْلِ بَعْدَ/ النَّوْمِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ أَكَلُوا ثُمَّ نَدِمُوا وَتَابُوا وَسَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ تَعَالَى هَلْ يقبل توبتنا؟ فأنزل الله هذه الآية.
المسألة الثالثة وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ سَأَلُوا النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى،