أَمَّا قَوْلُهُ: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي الْآيَةِ وُجُوهًا أَحَدُهَا: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ مِنَ الْوَلَدِ بِالْمُبَاشَرَةِ أَيْ لَا تُبَاشِرُوا لِقَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَحْدَهَا، وَلَكِنْ لِابْتِغَاءِ مَا وَضَعَ اللَّهُ لَهُ النِّكَاحَ مِنَ التَّنَاسُلِ
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «تَنَاكَحُوا تَنَاسَلُوا تَكْثُرُوا»
وَثَانِيهَا: أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْعَزْلِ، وَقَدْ رُوِيَتِ الْأَخْبَارُ فِي كَرَاهِيَةِ ذَلِكَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَعْزِلُ الرَّجُلُ عَنِ الْحُرَّةِ إِلَّا بِإِذْنِهَا وَلَا بَأْسَ أَنْ يَعْزِلَ عَنِ الْأَمَةِ
وَرَوَى عَاصِمٌ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ الْعَزْلَ،
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يَعْزِلَ عَنِ الْحُرَّةِ إِلَّا بِإِذْنِهَا
وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: ابْتَغُوا الْمَحِلَّ الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَحَلَّلَهُ دُونَ مَا لَمْ يَكْتُبْ لَكُمْ مِنَ الْمَحِلِّ الْمُحَرَّمِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ الْبَقَرَةِ: 222 وَرَابِعُهَا: أَنَّ هَذَا التَّأْكِيدَ تَقْدِيرُهُ: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا هَذِهِ الْمُبَاشَرَةَ الَّتِي كَتَبَهَا لَكُمْ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْكُمْ وَخَامِسُهَا: وَهُوَ عَلَى قَوْلِ أَبِي مُسْلِمٍ: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، يَعْنِي هَذِهِ الْمُبَاشَرَةَ الَّتِي كَانَ اللَّهُ تَعَالَى كتبها لكم وإن كنتم تظنوها مُحَرَّمَةً عَلَيْكُمْ وَسَادِسُهَا: أَنَّ مُبَاشَرَةَ الزَّوْجَةِ قَدْ تَحْرُمُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ بِسَبَبِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالْعِدَّةِ وَالرِّدَّةِ فَقَوْلُهُ: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ يَعْنِي لَا تُبَاشِرُوهُنَّ إِلَّا فِي الْأَحْوَالِ وَالْأَوْقَاتِ الَّتِي أُذِنَ لَكُمْ فِي مُبَاشَرَتِهِنَّ وَسَابِعُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ إِذْنٌ فِي الْمُبَاشَرَةِ وَقَوْلَهُ: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ يَعْنِي لَا تَبْتَغُوا هَذِهِ الْمُبَاشَرَةَ إِلَّا مِنَ الزَّوْجَةِ وَالْمَمْلُوكَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي/ كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ بِقَوْلِهِ: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ المؤمنون: 6 وَثَامِنُهَا: قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْجَوْزَاءِ: يَعْنِي اطْلُبُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ وَمَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ مِنَ الثَّوَابِ فِيهَا إِنْ وَجَدْتُمُوهَا، وَجُمْهُورُ الْمُحَقِّقِينَ اسْتَبْعَدُوا هَذَا الْوَجْهَ، وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَذَلِكَ هُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَا دَامَ قَلْبُهُ مُشْتَغِلًا بِطَلَبِ الشَّهْوَةِ وَاللَّذَّةِ، لَا يُمْكِنُهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَتَفَرَّغَ لِلطَّاعَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ وَالْحُضُورِ، أَمَّا إِذَا قَضَى وَطَرَهُ وَصَارَ فَارِغًا مِنْ طَلَبِ الشَّهْوَةِ يُمْكِنُهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَتَفَرَّغَ لِلْعُبُودِيَّةِ، فَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ حَتَّى تَتَخَلَّصُوا مِنْ تِلْكَ الْخَوَاطِرِ الْمَانِعَةِ عَنِ الْإِخْلَاصِ فِي الْعُبُودِيَّةِ، وَإِذَا تَخَلَّصْتُمْ مِنْهَا فَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ مِنَ الْإِخْلَاصِ فِي الْعُبُودِيَّةِ فِي الصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَطَلَبِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ غَيْرُ مُسْتَبْعَدَةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كُتِبَ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّ كُتِبَ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ بِمَعْنَى جَعَلَ، كَقَوْلِهِ: كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ الْمُجَادَلَةِ: 22 أَيْ جَعَلَ، وَقَوْلُهُ: فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ آلِ عِمْرَانَ: 53 فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الْأَعْرَافِ: 156 أَيْ أَجْعَلُهَا وَثَانِيهَا: مَعْنَاهُ قَضَى اللَّهُ لَكُمْ كَقَوْلِهِ: قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنا التَّوْبَةِ: 51 أَيْ قَضَاهُ، وَقَوْلِهِ: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي الْمُجَادَلَةِ: 21 وَقَوْلِهِ: لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ آلِ عِمْرَانَ: 154 أَيْ قَضَى، وَثَالِثُهَا: أَصْلُهُ هُوَ مَا كَتَبَ اللَّهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مِمَّا هُوَ كَائِنٌ، وَكُلُّ حُكْمٍ حَكَمَ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ فَقَدْ أَثْبَتَهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَرَابِعُهَا: هُوَ مَا كَتَبَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ مِنْ إِبَاحَةِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْتَغُوا وقرأ الأعمش وَابْتَغُوا أَمَّا قَوْلُهُ: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا فَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِهِمَا أن تحريمهما وتحريم الجماع بالدليل بَعْدَ النَّوْمِ، لَمَّا تَقَدَّمَ احْتِيجَ فِي إِبَاحَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا إِلَى دَلِيلٍ خَاصٍّ يَزُولُ بِهِ التَّحْرِيمُ، فَلَوِ اقْتَصَرَ تَعَالَى عَلَى قَوْلِهِ: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ لَمْ يُعْلَمْ بِذَلِكَ زَوَالُ تَحْرِيمِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، فَقَرَنَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلَهُ: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا لِتَتِمَّ الدَّلَالَةُ عَلَى الْإِبَاحَةِ.