وَالشِّرْكِ، لِأَنَّ مَنْ قُتِلَ فَقَدْ زَالَ كُفْرُهُ، وَمَنْ لَا يُقْتَلُ يُخَافُ مِنْهُ الثَّبَاتُ عَلَى الْكُفْرِ فَإِذَا كَانَ هَذَا هُوَ الْأَغْلَبُ جَازَ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ.
الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ قَاتِلُوهُمْ قَصْدًا مِنْكُمْ إِلَى زَوَالِ الْكُفْرِ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُقَاتِلِ لِلْكُفَّارِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ هَذَا، وَلِذَلِكَ مَتَى ظَنَّ أَنَّ مَنْ يُقَاتِلُهُ يُقْلِعُ عَنِ الْكُفْرِ بِغَيْرِ الْقِتَالِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْعُدُولُ عَنْهُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى حَمْلِ الْفِتْنَةِ عَلَى الشِّرْكِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الشِّرْكِ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَاسِطَةٌ وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ تَعَالَى هُوَ الْمَعْبُودَ الْمُطَاعَ دُونَ سَائِرِ مَا يُعْبَدُ وَيُطَاعُ غَيْرُهُ، فَصَارَ التَّقْدِيرُ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَزُولَ الْكُفْرُ وَيَثْبُتَ الْإِسْلَامُ، وَحَتَّى يَزُولَ مَا يُؤَدِّي إِلَى الْعِقَابِ وَيَحْصُلَ مَا يُؤَدِّي إِلَى الثَّوَابِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ الْفَتْحِ: 16 وَفِي ذَلِكَ بَيَانُ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَمَرَ بِالْقِتَالِ لِهَذَا الْمَقْصُودِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنِ انْتَهَوْا فَالْمُرَادُ: فَإِنِ انْتَهَوْا عَنِ الْأَمْرِ الَّذِي لِأَجْلِهُ وَجَبَ قِتَالُهُمْ، وَهُوَ إِمَّا كُفْرُهُمْ أَوْ قِتَالُهُمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ قِتَالُهُمْ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ الْأَنْفَالِ: 38 .
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ فَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ، أَيْ فَلَا قَتْلَ إِلَّا عَلَى الَّذِينَ لَا يَنْتَهُونَ عَلَى الْكُفْرِ فَإِنَّهُمْ بِإِصْرَارِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ ظَالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ.
فَإِنْ قِيلَ: لَمْ سُمِّيَ ذَلِكَ الْقَتْلُ عُدْوَانًا مَعَ أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ حَقٌّ وَصَوَابٌ؟.
قُلْنَا: لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَتْلَ جَزَاءُ الْعُدْوَانِ فَصَحَّ إِطْلَاقُ اسْمِ الْعُدْوَانِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها الشُّورَى: 40 وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ،
... وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ
... فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ لقمان: 13 وَالثَّانِي: إِنْ تَعَرَّضْتُمْ لَهُمْ بَعْدَ انْتِهَائِهِمْ عَنِ الشِّرْكِ وَالْقِتَالِ كُنْتُمْ أَنْتُمْ ظَالِمِينَ فَنُسَلِّطَ عَلَيْكُمْ من يعتدي عليكم.
سورة البقرة (2) : آية 194الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)
في قوله تعالى الشهر الحرام بالشهر الحرام اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَبَاحَ الْقِتَالَ وَكَانَ ذَلِكَ مُنْكَرًا فِيمَا بَيْنَهُمْ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يُزِيلُ ذَلِكَ فَقَالَ:
الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا:
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ لِلْعُمْرَةِ وَكَانَ ذَلِكَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ فَصَدَّهُ أَهْلُ مَكَّةَ عَنْ ذَلِكَ ثُمَّ صَالَحُوهُ عَنْ أَنْ يَنْصَرِفَ ويعود في العالم الْقَابِلِ حَتَّى يَتْرُكُوا لَهُ مَكَّةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ وَهُوَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَدَخَلَ مَكَّةَ وَاعْتَمَرَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ
يَعْنِي أَنَّكَ دَخَلْتَ الْحَرَمَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَالْقَوْمُ كَانُوا صَدُّوكَ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ فِي هَذَا الشَّهْرِ فَهَذَا الشَّهْرُ بِذَاكَ الشَّهْرِ وَثَانِيهَا: مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ الْكُفَّارَ سَمِعُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، فَأَرَادُوا مُقَاتَلَتَهُ وَظَنُّوا أنه لا يقاتلهم، وذلك قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ