بَعْضِ الْأَوْقَاتِ تَحْرِيكُهُ وَجَبَ أَنْ يُقَالَ بِالنَّصْبِ، لِأَنَّهُ أَخَفُّ الْحَرَكَاتِ وَأَقْرَبُهَا إِلَى السُّكُونِ.
الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا قُلْتَ: لَا رَجُلَ بِالنَّصْبِ، فَقَدْ نَفَيْتَ الْمَاهِيَّةَ، وَانْتِفَاءُ الْمَاهِيَّةِ يُوجِبُ انْتِفَاءَ جَمِيعِ أَفْرَادِهَا قَطْعًا، أَمَّا إِذَا قُلْتَ: لَا رَجُلٌ بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ، فَقَدْ نَفَيْتَ رَجُلًا مُنْكَرًا مُبْهَمًا، وَهَذَا بِوَصْفِهِ لَا يُوجِبُ انْتِفَاءَ جَمِيعِ أَفْرَادِ هَذِهِ الْمَاهِيَّةِ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَكَ: لَا رَجُلَ بِالنَّصْبِ أَدَلُّ عَلَى عُمُومِ النَّفْيِ مِنْ قَوْلِكَ: لَا رَجُلٌ بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ فَلْنَرْجِعْ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ فَنَقُولُ: أَمَّا الَّذِينَ قَرَءُوا ثَلَاثَةً: بِالنَّصْبِ فَلَا إِشْكَالَ وَأَمَّا الَّذِينَ قَرَءُوا الْأَوَّلَيْنِ بِالرَّفْعِ مَعَ التَّنْوِينِ، وَالثَّالِثَ بِالنَّصْبِ فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاهْتِمَامَ بِنَفْيِ الْجِدَالِ أَشَدُّ مِنَ الِاهْتِمَامِ بِنَفْيِ الرَّفَثِ وَالْفُسُوقِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّفَثَ عِبَارَةٌ عَنْ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَالْجِدَالُ مُشْتَمِلٌ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمُجَادِلَ يَشْتَهِي تَمْشِيَةَ قَوْلِهِ، وَالْفُسُوقُ عِبَارَةٌ عَنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ، وَالْمُجَادِلُ لَا يَنْقَادُ لِلْحَقِّ، وَكَثِيرًا مَا يُقْدِمُ عَلَى الْإِيذَاءِ وَالْإِيحَاشِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ فَلَمَّا كَانَ الْجِدَالُ مُشْتَمِلًا عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْقُبْحِ لَا جَرَمَ خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ بِمَزِيدِ الزَّجْرِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي النَّفْيِ، أَمَّا الْمُفَسِّرُونَ فإنهم قالوا: من قرأ الأولين بالرفث وَالثَّالِثَ بِالنَّصْبِ فَقَدْ حَمَلَ الْأَوَّلَيْنِ عَلَى مَعْنَى النَّهْيِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَا يَكُونُ رَفَثٌ وَلَا فُسُوقٌ وَحَمَلَ الثَّالِثَ عَلَى الْإِخْبَارِ بِانْتِفَاءِ الْجِدَالِ، هَذَا مَا قَالُوهُ إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ بَيَانٌ أَنَّهُ لِمَ خُصَّ الْأَوَّلَانِ بِالنَّهْيِ وَخُصَّ الثَّالِثُ بِالنَّفْيِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَمَّا الرَّفَثُ فَقَدْ فَسَّرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ الْبَقَرَةِ: 187 وَالْمُرَادُ: الْجِمَاعُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمُرَادُ مِنْهُ كُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجِمَاعِ فَالرَّفَثُ بِاللِّسَانِ ذِكْرُ الْمُجَامَعَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، وَالرَّفَثُ بِالْيَدِ اللَّمْسُ وَالْغَمْزُ، وَالرَّفَثُ بِالْفَرَجِ الْجِمَاعُ، وَهَؤُلَاءِ قَالُوا: التَّلَفُّظُ بِهِ فِي غَيْبَةِ النِّسَاءِ لَا يَكُونُ رَفَثًا، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَحْدُو بَعِيرَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَيَقُولُ:
وَهُنَّ يَمْشِينَ بنا هميسا
... إن تصدق الطير ننك لميسا
فَقَالَ لَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ أَتَرْفُثُ وَأَنْتَ مُحْرِمٌ؟ قَالَ: إِنَّمَا الرَّفَثُ مَا قِيلَ عِنْدَ النِّسَاءِ، وَقَالَ آخَرُونَ: الرَّفَثُ هُوَ قَوْلُ الْخَنَا وَالْفُحْشِ، وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِالْخَبَرِ وَاللُّغَةِ أَمَّا الْخَبَرُ
فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ فَإِنِ امْرُؤٌ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ»
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّفَثَ هاهنا لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا قَوْلَ الْخَنَا وَالْفُحْشِ، وَأَمَّا اللُّغَةُ فَهُوَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّهُ قَالَ: الرَّفَثُ الْإِفْحَاشُ فِي الْمَنْطِقِ، يُقَالُ أَرْفَثَ الرَّجُلُ إِرْفَاثًا، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الرَّفَثُ اللَّغْوُ مِنَ الْكَلَامِ.
أَمَّا الْفُسُوقُ فَاعْلَمْ أَنَّ الْفِسْقَ وَالْفُسُوقَ وَاحِدٌ وَهُمَا مَصْدَرَانِ لِفَسَقَ يَفْسُقُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا قَبْلُ أَنَّ الْفُسُوقَ هُوَ الْخُرُوجُ عَنِ الطَّاعَةِ، وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فَكَثِيرٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ حَمَلُوهُ عَلَى كُلِّ الْمَعَاصِي/ قَالُوا: لِأَنَّ اللَّفْظَ صَالِحٌ لِلْكُلِّ وَمُتَنَاوِلٌ لَهُ، وَالنَّهْيُ عَنِ الشَّيْءِ يُوجِبُ الِانْتِهَاءَ عَنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِهِ فَحَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى بَعْضِ أَنْوَاعِ الْفُسُوقِ تَحَكُّمٌ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَهَذَا مُتَأَكَّدٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ الْكَهْفِ: 50 وَبِقَوْلِهِ: وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ الْحُجُرَاتِ: 7 .
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ بَعْضُ الْأَنْوَاعِ ثُمَّ ذَكَرُوا وُجُوهًا:
الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ السِّبَابُ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ وَالْخَبَرِ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ