الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: فَإِنْ زَلَلْتُمْ فِيهِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ الْمَشْرُوطَ إِنَّمَا يَحْسُنُ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَكُونُ عَارِفًا بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ، وَأَجَابَ قَتَادَةُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: قَدْ عَلِمَ أَنَّهُمْ سَيَزِلُّونَ وَلَكِنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَ ذَلِكَ وَأَوْعَدَ فِيهِ لِكَيْ يَكُونَ لَهُ حُجَّةٌ عَلَى خَلْقِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ زَلَلْتُمْ يَعْنِي إِنِ انْحَرَفْتُمْ عَنِ الطَّرِيقِ الَّذِي أُمِرْتُمْ بِهِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَدْخُلُ فِي هَذَا الْكَبَائِرُ وَالصَّغَائِرُ فَإِنَّ الِانْحِرَافَ كَمَا يَحْصُلُ بِالْكَثِيرِ يَحْصُلُ بِالْقَلِيلِ. فَتَوَعَّدَ تَعَالَى عَلَى كُلِّ ذَلِكَ زَجْرًا لَهُمْ عَنِ الزَّوَالِ عَنِ الْمِنْهَاجِ لِكَيْ يَتَحَرَّزَ الْمُؤْمِنُ عَنْ قَلِيلِ ذَلِكَ وَكَثِيرِهِ لِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْكَبَائِرِ فَلَا شَكَّ فِي وُجُوبِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ، وَمَا لَمْ يُعْلَمْ كَوْنُهُ مِنَ الْكَبَائِرِ فَإِنَّهُ لَا يُؤْمَنُ كَوْنُ الْعِقَابِ مُسْتَحِقًّا بِهِ وَحِينَئِذٍ يَجِبُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ أَمَّا الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ فَهِيَ الدَّلَائِلُ عَلَى الْأُمُورِ الَّتِي تُثْبِتُ صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا بَعْدَ ثُبُوتِهَا نَحْوَ الْعِلْمِ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ وَافْتِقَارِهِ إِلَى صَانِعٍ يَكُونُ عَالِمًا بِالْمَعْلُومَاتِ كُلِّهَا، قَادِرًا عَلَى الْمُمْكِنَاتِ كُلِّهَا، غَنِيًّا عَنِ الْحَاجَاتِ كُلِّهَا، وَمِثْلَ الْعِلْمِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمُعْجِزَةِ وَالسِّحْرِ، وَالْعِلْمِ بِدَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى الصِّدْقِ فَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْبَيِّنَاتِ الْعَقْلِيَّةِ، وَأَمَّا الْبَيِّنَاتُ السَّمْعِيَّةُ فَهِيَ الْبَيَانُ الْحَاصِلُ بِالْقُرْآنِ وَالْبَيَانُ الْحَاصِلُ بِالسُّنَّةِ فَكُلُّ هَذِهِ الْبَيِّنَاتِ دَاخِلَةٌ فِي الْآيَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ عُذْرَ الْمُكَلَّفِ لَا يَزُولُ عِنْدَ حُصُولِ كُلِّ هَذِهِ الْبَيِّنَاتِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ الْقَاضِي: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ بِالذَّنْبِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بَعْدَ الْبَيَانِ وَإِزَاحَةِ الْعِلَّةِ، فَإِذَا عَلَّقَ الْوَعِيدَ بِشَرْطِ مَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ وَحُصُولِهَا فَبِأَنْ لَا يَجُوزَ أَنْ يَحْصُلَ الْوَعِيدُ لِمَنْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْفِعْلِ أَصْلًا أَوْلَى، ولأن الدلالة لا ينتفع بها إلا أولوا الْقُدْرَةِ، وَقَدْ يَنْتَفِعُ بِالْقُدْرَةِ مَعَ فَقْدِ الدَّلَالَةِ، وَقَالَ أَيْضًا:
دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ حُصُولُ الْبَيِّنَاتِ لَا حُصُولُ الْيَقِينِ مِنَ الْمُكَلَّفِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْمُتَمَكِّنَ مِنَ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ يَلْحَقُهُ الْوَعِيدُ كَالْعَارِفِ، فَبَطَلَ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنْ لَا حُجَّةَ لِلَّهِ عَلَى مَنْ يَعْلَمُ وَيَعْرِفُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ قوله تعالى: فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ/ إشارة إلى أن ذَنْبِهِمْ وَجُرْمِهِمْ، فَكَيْفَ يَدُلُّ قَوْلُهُ: أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ عَلَى الزَّجْرِ وَالتَّهْدِيدِ.
الْجَوَابُ: أَنَّ الْعَزِيزَ مَنْ لَا يُمْنَعُ عَنْ مُرَادِهِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِكَمَالِ الْقُدْرَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَادِرٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ، فَكَانَ عَزِيزًا عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ، فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مُقْتَدِرٌ عَلَيْكُمْ لَا يَمْنَعُهُ مَانِعٌ عَنْكُمْ، فَلَا يَفُوتُهُ مَا يُرِيدُهُ مِنْكُمْ وَهَذَا نِهَايَةٌ فِي الْوَعِيدِ، لِأَنَّهُ يَجْمَعُ مِنْ ضُرُوبِ الْخَوْفِ مَا لَا يَجْمَعُهُ الْوَعِيدُ بِذِكْرِ الْعِقَابِ، وَرُبَّمَا قَالَ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ: إِنْ عَصَيْتَنِي فَأَنْتَ عَارِفٌ بِي، وَأَنْتَ تَعْلَمُ قُدْرَتِي عَلَيْكَ وَشِدَّةَ سَطْوَتِي، فَيَكُونُ هَذَا الْكَلَامُ فِي الزَّجْرِ أَبْلَغَ مِنْ ذِكْرِ الضَّرْبِ وَغَيْرِهِ، فَإِنْ قِيلَ: أَفَهَذِهِ الْآيَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْوَعْدِ كَمَا أَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْوَعِيدِ؟ قُلْنَا: نَعَمْ مِنْ حَيْثُ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: حَكِيمٌ فَإِنَّ اللَّائِقَ بِالْحِكْمَةِ أَنْ يُمَيِّزَ بَيْنَ الْمُحْسِنِ وَالْمُسِيءِ فَكَمَا يَحْسُنُ مِنَ الْحَكِيمِ إِيصَالُ الْعَذَابِ إِلَى الْمُسِيءِ فَكَذَلِكَ