فَإِنْ قِيلَ: أَمْرُ اللَّهِ عِنْدَكُمْ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ، فَالْإِتْيَانُ عَلَيْهَا مُحَالٌ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ أَصْوَاتٌ فَتَكُونُ/ أَعْرَاضًا، فَالْإِتْيَانُ عَلَيْهَا أَيْضًا مُحَالٌ.
قُلْنَا: الْأَمْرُ فِي اللُّغَةِ لَهُ مَعْنَيَانِ، أَحَدُهُمَا الْفِعْلُ وَالشَّأْنُ وَالطَّرِيقُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ الْقَمَرِ: 50 وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ هُودٍ: 97 وَفِي الْمَثَلِ: لِأَمْرٍ مَا جَدَعَ قَصِيرٌ أَنْفَهُ، لِأَمْرٍ مَا يَسُودُ مَنْ يسود فيحمل الأمر هاهنا عَلَى الْفِعْلِ، وَهُوَ مَا يَلِيقُ بِتِلْكَ الْمَوَاقِفِ مِنَ الْأَهْوَالِ وَإِظْهَارِ الْآيَاتِ الْمُبَيِّنَةِ، وَهَذَا هُوَ التأويل الأول الذي ذكرناه، وأما إن حَمْلُنَا الْأَمْرَ عَلَى الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النَّهْيِ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ أَنَّ مُنَادِيًا يُنَادِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَلَا إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ بِكَذَا وَكَذَا، فَذَاكَ هُوَ إِتْيَانُ الْأَمْرِ، وَقَوْلُهُ: فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ أَيْ مَعَ ظُلَلٍ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّ سَمَاعَ ذَلِكَ النِّدَاءِ وَوُصُولَ تِلْكَ الظُّلَلِ يَكُونُ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ إِتْيَانِ أَمْرِ اللَّهِ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ حُصُولَ أَصْوَاتٍ مُقَطَّعَةٍ مَخْصُوصَةٍ فِي تِلْكَ الْغَمَامَاتِ تَدُلُّ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى كُلِّ أَحَدٍ بِمَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، أَوْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ نُقُوشًا مَنْظُومَةً فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ لِشِدَّةِ بَيَاضِهَا وَسَوَادُ تِلْكَ الْكِتَابَةِ يُعْرَفُ بِهَا حَالُ أَهْلِ الْمَوْقِفِ فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَغَيْرِهِمَا وَتَكُونُ فَائِدَةُ الظُّلَلِ مِنَ الْغَمَامِ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُ أَمَارَةً لِمَا يُرِيدُ إِنْزَالَهُ بِالْقَوْمِ فَعِنْدَهُ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْأَمْرَ قَدْ حَضَرَ وَقَرُبَ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي التَّأْوِيلِ أَنَّ الْمَعْنَى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ بِمَا وَعَدَ مِنَ الْعَذَابِ وَالْحِسَابِ، فَحَذَفَ مَا يَأْتِي بِهِ تَهْوِيلًا عَلَيْهِمْ، إِذْ لَوْ ذَكَرَ مَا يَأْتِي بِهِ كَانَ أَسْهَلَ عَلَيْهِمْ فِي بَابِ الْوَعِيدِ وَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ كَانَ أَبْلَغَ لِانْقِسَامِ خَوَاطِرِهِمْ، وَذَهَابِ فِكْرِهِمْ فِي كُلِّ وَجْهٍ، ومثله قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ الْحَشْرِ: 2 وَالْمَعْنَى أَتَاهُمُ اللَّهُ بِخِذْلَانِهِ إِيَّاهُمْ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ النحل: 26 فقوله: وَأَتاهُمُ الْعَذابُ كَالتَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ وَيُقَالُ فِي الْعُرْفِ الظَّاهِرِ إِذَا سُمِعَ بِوِلَايَةِ جَائِرٍ: قَدْ جَاءَنَا فُلَانٌ بِجَوْرِهِ وَظُلْمِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا مَجَازٌ مَشْهُورٌ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي التَّأْوِيلِ أَنْ يَكُونَ فِي بِمَعْنَى الْبَاءِ، وَحُرُوفُ الْجَرِّ يُقَامُ بَعْضُهَا مُقَامَ الْبَعْضِ، وَتَقْدِيرُهُ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ بِظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ، وَالْمُرَادُ الْعَذَابُ الَّذِي يَأْتِيهِمْ فِي الْغَمَامِ مَعَ الْمَلَائِكَةِ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ تَصْوِيرُ عَظَمَةِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهَوْلِهَا وَشِدَّتِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ جَمِيعَ الْمُذْنِبِينَ إِذَا حَضَرُوا لِلْقَضَاءِ وَالْخُصُومَةِ، وَكَانَ الْقَاضِي فِي تِلْكَ الْخُصُومَةِ أَعْظَمَ السَّلَاطِينِ قَهْرًا وَأَكْبَرَهُمْ هَيْبَةً، فَهَؤُلَاءِ الْمُذْنِبُونَ لَا وَقْتَ عَلَيْهِمْ أَشَدُّ مَنْ وَقْتِ حُضُورِهِ لِفَصْلِ تِلْكَ الْخُصُومَةِ، فَيَكُونُ الْغَرَضُ مِنْ ذِكْرِ إِتْيَانِ اللَّهِ تَصْوِيرَ غَايَةِ الْهَيْبَةِ وَنِهَايَةِ الْفَزَعِ، وَنَظِيرُهُ/ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ الزُّمَرِ: 67 مِنْ غَيْرِ تَصْوِيرِ قَبْضَةٍ وَطَيٍّ وَيَمِينٍ، وَإِنَّمَا هُوَ تَصْوِيرٌ لِعَظَمَةِ شَأْنِهِ لِتَمْثِيلِ الْخَفِيِّ بالجلي، فكذا هاهنا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْوَجْهُ السَّادِسُ: وَهُوَ أَوْضَحُ عِنْدِي مِنْ كُلِّ مَا سَلَفَ: أَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً البقرة: 208 إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي حَقِّ الْيَهُودِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَقَوْلُهُ: فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا