جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
البقرة: 209 يَكُونُ خِطَابًا مَعَ الْيَهُودِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ البقرة: 210 حِكَايَةً عَنِ الْيَهُودِ، وَالْمَعْنَى:
أَنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ دِينَكَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَعَ مُوسَى مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً الْبَقَرَةِ: 55 وَإِذَا كَانَ هَذَا حِكَايَةً عَنْ حَالِ الْيَهُودِ وَلَمْ يَمْنَعْ إِجْرَاءَ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا عَلَى مَذْهَبِ التَّشْبِيهِ، وَكَانُوا يُجَوِّزُونَ عَلَى اللَّهِ الْمَجِيءَ وَالذَّهَابَ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّهُ تَعَالَى تَجَلَّى لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الطَّوْرِ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَطَلَبُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ هَذَا الْكَلَامُ حِكَايَةً عَنْ مُعْتَقَدِ الْيَهُودِ الْقَائِلِينَ بِالتَّشْبِيهِ، فَلَا يُحْتَاجُ حِينَئِذٍ إِلَى التَّأْوِيلِ، وَلَا إِلَى حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَجَازِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْمًا يَنْتَظِرُونَ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ مُحِقُّونَ فِي ذَلِكَ الِانْتِظَارِ أَوْ مُبْطِلُونَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَسْقُطُ الْإِشْكَالُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ كَيْفَ يَتَعَلَّقُ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ.
قُلْنَا: الْوَجْهُ فِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عِنَادَهُمْ وَتَوَقُّفَهُمْ فِي قَبُولِ الدِّينِ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ الْفَاسِدِ، فَذَكَرَ بَعْدَهُ مَا يَجْرِي مَجْرَى التَّهْدِيدِ فَقَالَ: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ وَهَذَا الْوَجْهُ أَظْهَرُ عِنْدِي مِنْ كُلِّ مَا سَبَقَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ كَلَامِهِ.
الْوَجْهُ السَّابِعُ: فِي التَّأْوِيلِ مَا حَكَاهُ الْقَفَّالُ فِي «تَفْسِيرِهِ» عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْإِتْيَانَ فِي الظُّلَلِ مُضَافٌ إِلَى الْمَلَائِكَةِ، فَأَمَّا الْمُضَافُ إِلَى اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ فَهُوَ الْإِتْيَانُ فَقَطْ، فَكَانَ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَيَسْتَشْهِدُ فِي صِحَّتِهِ بِقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ وَالْمَلَائِكَةُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا التَّأْوِيلُ مُسْتَنْكَرٌ.
أَمَّا قَوْلُهُ: فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ فَاعْلَمْ أَنَّ الظُّلَلَ جَمْعُ ظُلَّةٍ، وَهِيَ مَا أَظَلَّكَ اللَّهُ بِهِ، وَالْغَمَامُ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِلَّا إِذَا كَانَ مُجْتَمِعًا مُتَرَاكِمًا، فَالظُّلَلُ مِنَ الْغَمَامِ عِبَارَةٌ عَنْ قِطَعٍ مُتَفَرِّقَةٍ كُلُّ قِطْعَةٍ مِنْهَا تَكُونُ فِي غَايَةِ الْكَثَافَةِ وَالْعِظَمِ، فَكُلُّ قِطْعَةٍ ظُلَّةٌ، وَالْجَمْعُ ظُلَلٌ، قَالَ تَعَالَى: وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ لُقْمَانَ: 32 وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظِلَالٍ مِنَ الْغَمَامِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الظِّلَالُ جَمْعَ ظُلَّةٍ، كَقِلَالٍ وَقُلَّةٍ، وَأَنْ يَكُونَ جَمْعَ ظِلٍّ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمَعْنَى مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمْ قَهْرُ اللَّهِ وَعَذَابُهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ.
فَإِنْ قِيلَ: وَلِمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فِي الْغَمَامِ؟
قُلْنَا: لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْغَمَامَ مَظِنَّةُ الرَّحْمَةِ، فَإِذَا نَزَلَ مِنْهُ الْعَذَابُ كَانَ الْأَمْرُ أَفْظَعَ، لأن السر إِذَا جَاءَ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ كَانَ أَهْوَلَ وَأَفْظَعَ، كَمَا أَنَّ الْخَيْرَ إِذَا جَاءَ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ كَانَ أَكْثَرَ تَأْثِيرًا فِي السُّرُورِ، فَكَيْفَ إِذَا جَاءَ الشَّرُّ مِنْ حَيْثُ يَحْتَسِبُ الْخَيْرَ، وَمِنْ هَذَا اشْتَدَّ عَلَى الْمُتَفَكِّرِينَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى قَوْلُهُ: وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ الزُّمَرِ: 47 وَثَانِيهَا: أَنَّ نُزُولَ الْغَمَامِ عَلَامَةٌ لِظُهُورِ مَا يَكُونُ أَشَدَّ الْأَهْوَالِ فِي الْقِيَامَةِ قَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً