مَا حَدَّثَنَاهُ بَكْرُ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يوسُفَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: " كُنْتُ أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ، وَأَبَا طَلْحَةَ
ص: 165 الْأَنْصَارِيَّ، وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ شَرَابَ فَضِيخٍ وَتَمْرٍ فَجَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا أَنَسُ، قُمْ إِلَى تِلْكِ الْجِرَارِ فَاكْسِرْهَا فَقُمْتُ إِلَى مِهْرَاسٍ لَنَا فَدَفَعْتُهَا بِأَسْفَلِهِ فَكَسَرْتُهَا " قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مِنَ الْفِقْهِ تَصْحِيحُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصِّحَابَةِ ثُمَّ كَانَ الصَّحَابَةُ عَلَى ذَلِكَ وَبِهِ يُفْتُونَ أَشَدُّهُمْ فِيهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُخَاطِبُهُمْ نَصًّا «بِأَنَّ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» ثُمَّ ابْنُ عُمَرَ لَمَّا سُئِلَ عَنْ نَبِيذٍ يُنْبَذُ بِالْغَدَاةِ وَيُشْرَبُ بِالْعَشِيِّ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ فَقَالَ لِلسَّائِلِ: إِنِّي أَنْهَاكَ عَنْ قَلِيلِ، مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ وَإِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ عَلَيْكَ فَإِنَّ أَهْلَ خَيْبَرَ يَشْرَبُونَ شَرَابًا يُسَمُّونَهُ كَذَا وَهِيَ الْخَمْرُ وَإِنَّ أَهْلَ فَدَكٍ يَشْرَبُونَ شَرَابًا يُسَمُّونَهُ كَذَا وَهِيَ الْخَمْرُ وَإِنَّ أَهْلَ يَعْنِي مِصْرَ يَشْرَبُونَ شَرَابًا مِنَ الْعَسَلِ يُسَمُّونَهُ الْبِتْعَ وَهِيَ الْخَمْرُ ثُمَّ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمَّا سُئِلَتْ عَنْ غَيْرِ عَصِيرِ الْعِنَبُ فَقَالَتْ: صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَشْرَبُ قَوْمٌ
ص: 166 الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ أَسْمَائِهَا» فَلَمْ يَزَلِ الَّذِينَ يَرْوونَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ يَحْمِلُونَهَا عَلَى هَذَا عَصْرًا بَعْدَ عَصْرٍ حَتَّى عَرَضَ فِيهَا قَوْمٌ فَقَالُوا: الْمُحَرَّمُ الشَّرْبَةُ الْآخِرَةُ الَّتِي تُسْكِرُ وَقَالُوا قَدْ قَالَتِ اللُّغَةُ الْخُبْزُ الْمُشْبِعُ وَالْمَاءُ الْمُرَوِّي قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَإِنْ صَحَّ هَذَا فِي اللُّغَةِ فَهُوَ حُجْةٌ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ إِحْدَى جِهَتَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ لِلْجِنْسِ كُلِّهِ أَيْ صِفَةُ الْخُبْزِ أَنَّهُ يُشْبِعُ وَصِفَةُ الْمَاءِ أَنَّهُ يَرْوِي فَيَكُونُ هَذَا لَقَلِيلِ الْخُبْزِ وَكَثِيرِهِ؛ لِأَنَّهُ جِنْسٌ فَكَذَا قَلِيلُ مَا يُسْكِرُ، أَوْ يَكُونُ الْخُبْزُ الْمُشْبِعُ فَهُوَ لَا يُشْبِعُ إِلَّا بِمَا كَانَ قَبْلَهُ فَكُلُّهُ مُشْبِعٌ فَكَذَا قَلِيلُ الْمُسْكِرِ وَكَثِيرُهُ وَإِنْ كَانُوا قَدْ تَأَوَّلُوهُ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْمُشْبِعِ هُوَ الْآخَرُ الَّذِي يُشْبِعُ وَكَذَا الْمَاءُ الْمُرَوِّي فَيُقَالَ لَهُمْ: مَا حَدُّ ذَلِكَ الْمُرَوِّي وَالَّذِي لَا يُرَوِّي؟ فَإِنْ قَالُوا: لَا حَدَّ لَهُ فَهُوَ كُلُّهُ إِذَا مَرْوٍّ وَإِنْ حَدُّوهُ قِيلَ لَهُمْ: مَا
ص: 167 الْبُرْهَانُ عَلَى ذَلِكَ؟ وَهَلْ يَمْتَنِعُ الَّذِي لَا يُرَوِّي مِمَّا حَدَّدْتُمُوهُ أَنْ يَكُونَ يَرْوِي عُصْفُورًا؟ وَمَا أَشْبَهَهُ فَبَطُلَ الْحَدُّ وَصَارَ الْقَلِيلُ مِمَّا يُسْكِرُ كَثِيرُهُ دَاخِلًا فِي التَّحْرِيمِ وَعَارَضُوا بِأَنَّ الْمُسْكِرَ بِمَنْزِلَةِ الْقَاتِلِ لَا يُسَمَّى مُسْكِرًا حَتَّى يُسْكِرَ كَمَا لَا يُسَمَّى الْقَاتِلُ قَاتِلًا حَتَّى يَقْتُلَ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا لَا يُشْبِهُ مِنْ هَذَا شَيْئًا، لِأَنَّ الْمُسْكِرَ جِنْسٌ وَلَيْسَ كَذَا الْقَاتِلُ وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالُوا لَوَجَبَ أَلَّا يُسَمَّى الْكَثِيرُ مِنَ الْمُسْكِرِ مُسْكِرًا حَتَّى يُسْكِرَ وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُحِلُّوهُ، وَهَذَا خَارِجٌ عَنْ قَوْلِ الْجَمِيعِ وَقَالُوا: مَعْنَى: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، عَلَى الْقَدَحِ الَّذِي يُسْكِرُ وَهَذَا
ص: 168 خَطَأٌ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ، لِأَنَّ «كُلُّ» مَعْنَاهَا الْعُمُومُ فَالْقَدَحُ الَّذِي يُسْكِرُ مُسْكِرٌ وَالْجِنْسُ كُلُّهُ مُسْكِرٌ وَقَدْ حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَلَّ فَلَا يَجُوزُ الِاخْتِصَاصُ إِلَّا بِتَوْقِيفٍ وَإِنَّمَا قَوْلُنَا: مُسْكِرٌ يَقَعُ لِلْجِنْسِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ كَمَا يُقَالُ: التَّمْرُ بِالتَّمْرِ زِيَادَةُ مَا بَيْنَهُمَا رِبَا فَدَخَلَ فِي هَذِهِ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ وَالْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ، كَذَا دَخَلَ فِي كُلِّ مُسْكِرٍ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ وَشَبَّهُ بَعْضُهُمْ هَذَا بِالدَّوَاءِ وَالْبِنْجِ الَّذِي يَحْرُمُ كَثِيرُهُ وَيَحِلُّ قَلِيلُهُ وَهَذَا التَّشْبِيهُ بَعِيدٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» وَقَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ» فَالْمُسْكِرُ وَهُوَ الْخَمْرُ هُوَ الْجِنْسُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ فِيهِ {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} المائدة: 91 وَلَيْسَ هَذَا فِي الدَّوَاءِ وَالْبِنْجِ، وَإِنَّمَا هَذَا فِي كُلِّ شَرَابٍ فَهُوَ هَكَذَا، وَعَارَضُوا بِأَنْ قَالُوا: فَلَيْسَ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ بِمَنْزِلَةِ الْخَمْرِ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذِهِ مُغَالَطَةٌ وَتَمْوِيهٌ عَلَى السَّامِعِ، لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ مِنْ هَذَا إِبَاحَةٌ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ مَنْ قَتَلَ مُسْلِمًا غَيْرَ نَبِيٍّ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَتَلَ نَبِيًّا فَلَيْسَ يَجِبُ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِمَنْزِلَةٍ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا كَذَا مَنْ شَرِبَ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ شَرِبَ عَصِيرَ الْعِنَبِ الَّذِي قَدْ نُشَّ فَلَيْسَ يَجِبُ مِنْ هَذَا أَنْ يُبَاحَ لَهُ مَا قَدْ شَرِبَ وَلَكِنَّهُ بِمَنْزِلَتِهِ فِي أَنَّهُ قَدْ شَرِبَ مُحَرَّمًا وَشَرِبَ خَمْرًا وَأَنَّهُ يُحَدُّ فِي الْقَلِيلِ مِنْهُ كَمَا يُحَدُّ فِي الْقَلِيلِ مِنَ الْخَمْرِ
ص: 169 ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ لَا يُدْفَعُ قَوْلُهُ مِنْهُمْ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَمَعْنَى «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ» يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الْخَمْرِ فِي التَّحْرِيمِ وَأَنْ يَكُونَ الْمُسْكِرُ كُلُّهُ يُسَمَّى خَمْرًا كَمَا سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ بِالْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَةِ وَقَدْ عَارِضَ قَوْمٌ بَعْضَ الْأَسَانِيدِ مِنْ غَيْرِ مَا ذَكَرْنَاهُ فَمِنْ ذَلِكَ: