وكمسألة حد الفقير والمسكين والتفريق بينهما، مع أن أهل العلم توسعوا في الكلام عنها، غير أنه اكتفى فيها بقوله: " وأما شرح الفقراء والمساكين, فإن الفقير والمسكين واحد، وهما فقيران، إلا أن المسكين مأخوذ من السكون، وهو الذي يسأل فتظهر عليه الذلة من جملة الفقراء" (١) ولعل هذا الإجمال وعدم البسط سببه أن الخلاف وقع حتى في المذهب نفسه، مما جعل الهمة لا تنصرف إلى بيان قول المذهب، والاستدلال على المخالف، فالمخالف هنا من أهل المذهب أنفسهم.
وربما كان بسطُهُ بعض المسائل دون بعض، يتأثر بالبيئة العلمية المحيطة، فالعراق بيئة تمازجت فيها الآراء الفقهية ـ كما تقدم الإشارة إليه ـ فربما قوي الخلاف في مسائل واتجهت لها الهمم، كمسألة رد شهادة المحدود في القذف بعد التوبة (٢)، فهذه مسألة يكاد يجمع عليها أهل الرأي، قال ابن عبد البر: " وقال سفيان الثوري، وأبو حنيفة وأصحابه، وأكثر أهل العراق: لا تُقْبَلُ شهادة القاذف أبدا تاب أو لم يتب " (٣) فإذا تصورنا أن هذا قول أكثر أهل العراق، فما الحال التي سيكون عليها المؤلف وشيخه القاضي إسماعيل، وهما من قضاة العراق، ويخالفون قول أكثر أهلها، ثم هذه المسألة مما يكثر وقوعها، ولها مساس بمنصبهما ووظيفتهما، فالظن ـ والحال هذه ـ أن يعتني بهذه المسألة ويطيل بحثها.
· الفقرة الثانية: منهجه في الاستدلال والمناقشة.
تنوعت طريقة المؤلف في كلامه عن المسائل الفقهية، ومناقشة أقوال أهل العلم فيها، وسياق أدلتهم عليها، ولتوضيح هذا أذكر النقاط الآتية:
أولا: لم يَتِّبِع المؤلفُ مسلكا مطردا في مناقشة المخالف، أو الاستدلال على ما ذهب إليه، فنجده في موضع يُجْمِلُ الكلام ويطويه، مكتفيا بالراجح من القول، وهذا الراجح ربما دعمه بدليله، وربما أعراه.
وفي موضع آخر يبسط الخلاف ويرويه، سائقا الحجج، موردا الدلائل، رادا على المخالف، ناقضا قوله، ومُبينا ضعفه.
ثانيا: ويُلاحِظ الناظرُ في الكتاب؛ أن أبا الفضل القشيري، لا يسوق أدلة المخالف ولا تقريراتهم، إلا بالقدر الذي يُمَكِنُه من مناقشة تلك الأدلة وردها، وبعبارة أخرى: يسوق الأدلة لمناقشتها، ويوردها لنقضها.
ثالثا: أما الأدلة التي يسوقها المؤلف، احتجاجا لقوله، ونصرة لمذهبه، أو جوابا على أدلة المخالفين، فتنوعت وتعددت، إذ النظر الفقهي في المسائل الشرعية هو الصورة التطبيقية لأصول الفقه التقعيدي، ولذلك فقد اعتمد المؤلف على تلك الأصول الفقهية (السمعية) في نظره واستدلاله، فالكتاب، والسنة، وآثار السلف وإجماعهم، وما عليه الفتوى والعمل، ولغة العرب ومجاري كلامهم، كلها أصول اعتمدها المؤلف في استدلاله ومناقشته، وقد تقدم في المطالب السابقة بسطها وبيان منهج المؤلف فيها، مع ضرب الأمثلة عليها، بما يغني عن إعادتها، وأكتفي هنا بذكر مثال حسن يكشف عن القدرة العلمية في النقاش والمجادلة، وهو مثال جمع فيه المؤلف الاستدلال بالكتاب والسنة وعمل الصحابة والنظر العقلي، ففي مسألة حقيقة الكنز الذي نهى الله عنه ناقش القول المشهور عن أبي ذر - رضي الله عنه - القاضي بأن الكنز كل مال مالوه مطلقا، فاعترض على هذا القول وناقشه، قال ـ رحمه الله: " ونرجو أن يكون قول من قال: يكنزه الإنسان ويخَلِّفُه، غير مضبوط؛ وذلك أن الله ـ تبارك وتعالى ـ قال: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} (٤) وقال ـ عز من قائل ـ
(١) ينظر من هذه الرسالة: سورة التوبة الآية رقم (٦٠)
(٢) ينظر من هذه الرسالة: سورة النور الآية رقم (٣).
(٣) الاستذكار (٧/ ١٠٨).
(٤) سورة البقرة (١٨٠).