الفقرة الثانية: العناية بالمأثور.
المذهب المالكي مدرسة أثرية في المقام الأول، ولذا فلا عجب أن ترى هذا الاهتمام بالمأثور باديا عند القشيري وابن العربي بشكل كبير، وظهر هذا الاهتمام في عنايتهما بتفسير القرآن بالقرآن وبالسنة المبينة له، أو بأقوال السلف وآثارهم، وقد أكدا جميعا في مقدمة كتابيهما (١) على هذا المنهج، وتقديمه على ما سواه.
فأما تفسير القرآن بالقرآن فقد تعددت جوانبه عندهما (٢)، وسأقتصر على جانب واحد وهو بيان معنى اللفظة القرآنية عندهما: ففي بيان معنى الأشد قال القشيري: " وأما قوله: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} فهو الحلم الذي قال الله: {إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (٣) ... وقال في قصة يوسف - عليه السلام -: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} (٤) وهذا فمعناه: لما بلغ الحلم؛ لأن المرأة أرادته عند بلوغ النكاح، وأمر اليتيم بأمر يوسف أشبه، ويكون أَشُدٌ دون أَشُدٍ .. " (٥)، وقال ابن العربي: " والأشد كما قلنا في القول، وقد تكون في البدن، وقد تكون في المعرفة والتجربة، ولا بد من حصول الوجهين، فإن الأشد ها هنا وقعت مطلقة، وجاء بيان اليتيم في سورة النساء مقيدا، قال تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} (٦) فجمع بين قوة البدن ببلوغ النكاح وبين قوة المعرفة بإيناس الرشد" (٧).
وأما تفسير القرآن بالحديث، فقد كانت عناية الإمامين به كبيرة، حيث نص كل منهما (٨) على تقديم حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيان معنى الآية، والوقوف عند دلالته، ومن هنا فقد كثر في الكتابين الاستشهاد بحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتعددت جوانبه، ، ولما كان كتاب القشيري مختصرا من أصلٍ اعتمد الرواية المسندة، فقد اكتفى بهذا الأصل عن بيان مَخْرَج الحديث، على أنه يذكر بعض الروايات مسندة، وهو قليل، وأما ابن العربي فقد حرص على بيان مَخْرَج الحديث، وكان جل اهتمامه ـ كما كانت وصيته لطلابه ـ بالكتب الخمسة المشهورة، قال: " ولا يَدْعُونّ أحد منكم إلا بما في الكتب الخمسة، وهي: كتاب البخاري، ومسلم، والترمذي، وأبي داود، والنسائي، فهذه الكتب هي بدء الإسلام، وقد دخل فيها ما في الموطأ، الذي هو أصل التصانيف وذروا سواها" (٩)، وقد حرصا على ذكر الحديث بلفظه، وبيان راويه في غالب كتابيهما، ويقع لهما مخالفة ذلك.
ولم تقتصر عنايتهما على مجرد نقل الرواية والاستشهاد بالحديث على المعنى، بل كانت لهما مشاركة في ضبط ألفاظ الحديث، وبيان طرقه، ومتابعاته، ولكل منهما كلام في نقد سند الحديث ومتنه، دال على تقدمهما في هذا العلم ومعرفتهما به.
(١) ينظر من هذا الرسالة: ص ١١٨، وفيما يتعلق بان العربي ينظر من كتابه (١/ ٣).
(٢) أشرت إلى عدد من الجوانب المتعلقة بتفسير القرآن بالقرآن عند أبي الفضل القشيري ص ١١٩، وفيما يتعلق بابن العربي فقد أشار مؤلف كتاب: ابن العربي وتفسيره أحكام القرآن ص ١٠٥ إلى عدد من الجوانب.
(٣) سورة النساء (٦).
(٤) سورة يوسف (٢٢).
(٥) ينظر من هذه الرسالة: سورة الإسراء الآية (٣٤).
(٦) سورة النساء (٦).
(٧) أحكام القرآن (٣/ ١٩٨).
(٨) ينظر: مقدمة الكتابين.
(٩) أحكام القرآن (٢/ ٣٥١).