منه , مودعًا أخبار القرون الماضية وما نزل من مَثُلات الله بمن عصى وعاند منهم , منبئًا عن الكوائن المستقبلة في الأَعصار الباقية من الزمان , جامعًا في ذلك بين الحجة والمحتج له , والدليل والمدلول عليه , ليكون ذلك أوكد للزوم مادعا إليه , وإنباء عن وجوب ما أمر به , ونهى عنه.
ومعلوم أن الإتيان بمثل هذه الأمور , والجمع بين شتاتها حتى تنتظم وتتسق أمر تعجز عنه قُوى البشر , ولا تبلغه قدَرهم , فانقطع الخلق دونه , وعجزوا عن معارضته بمثله أو مناقضته فى شكله. ثم صار المعاندون له ممن كفر به وأنكره يقولون مرة إنه شعر لما رأوه كلامًا منظومًا , ومرة سحر إذ رأوه معجوزًا عنه , غير مقدور عليه , وقد كانوا يجدون له وقعًا في القلوب وقرعًا فى النفوس يُريبهم ويحيرهم , فلم يتمالكوا أن يعترفوا به نوعًا من الاعتراف. ولذلك قال قائلهم: إن له حلاوة وإن عليه طلاوة. وكانوا مرة لجهلهم وحيرتهم يقولون: {أساطير الأولين اكْتَتَبها فَهى تُمْلَى عليه بُكرةً وأصِيلاَ} مع علمهم أن صاحبه أميُّ وليس بحضرته من يملي أو يكتب , في نحو ذلك من الأمور التي جماعها الجهل والعجز , وقد حكى الله جل وعز عن بعض مردتهم وشياطينهم - ويقال هو الوليد بن المغيرة المخزومي - أنه لما طال فكره في أمر القرآن , وكثر ضجره منه , وضرب له الأخماس من رأيه فى الأسداس , لم يقدر على أكثر من قوله: {إن هذا إلَّا قولُ البَشَرْ} عنادًا للحق وجهلًا به , وذهابًا عن الحجة وانقطاعًا دونها , وقد وصف ذلك من حاله وشدة حيرته فقال سبحانه: {إنه فكَّرَ وقدَّر , فقُتل كيف قدَّرَ , ثم قُتِل كيف قَدَّر. ثم نَظَر. ثم عَبَس وبسَر. ثم أدبر واسْتكبَر. فقال إن هذا إلا سحر يُؤْثَر. إنْ هذا إلَّا قولُ البشَر}.