ذلك ما شاء، وقد يَنسى الإنسانُ أشياءَ كثيرةً كان رآها وسمِعها، وأموراً
كانت منه ومن غيره إذا تطاوَلَ بها الدهر، وإذا كان ذلك كذلك لم يُنْكَر ما
ذَكَره تعالى وأخبرَ به من أخذِه الإقرارَ عليهم بالربوبية على أنه لو كانت
العادةُ جاريةً بأن مثلَ هذا لا يُنسى في وقتنا وعادتنا لم يَجبْ أن يكون مثلَه لا
تنساهُ الذرية، لأن العادةَ المتقررةَ في وقتٍ من الأوقات لا يجبُ أن تكونَ
مقررةً مستمرةً أبدَ الدهر وفي سالفه، ولا يجبُ أن تكون العادةُ لقومٍ عادةً
لغيرهم إلا فيما ساوى اللهُ فيه بينَ أحوال الناس على اختلافهم، وإذا كان
ذلك كذلك لم يجب أن تكون عادةُ الذرية أن لا يَنْسى ما كان من إقرارها
وأخذه عليها وشهادةُ أنفسهم عليهم.
فإن قالوا: فأنتم خاصةً تذهبون إلى أنهم اسْتُخرجوا من ظهر آدم عليه
السلام كأمثال الذرِّ صِغَراً مستضعفين، ومَنْ هذه حالُه لا يصح كمالُ عقله
وتمامُ فكرته ووقوعُ النظرِ منه، لأن العقلَ والنظرَ يحتاجُ إلى بُنيةٍ وبلّةٍ
وذاك متعذر في الذرَّة، فبطلَ ما قلتم.
يقال لهم: العلمُ والأقدارُ والكلامُ والنظر، والاستدلالُ لا يحتاجُ شيءٌ
منه ولا من غيره من الصفات إلى بُنيةٍ وبلَّة على ما بيناه في غير هذا الكتاب.
فبطل ما قالوه، على أنه إن احتاج إلى ذلك فلا يَمنع أن تُبنى الذرَّةُ وما في
قدرها بُنيةً تحتملُ العلمَ كما بُنيتْ بنيةً تحتملُ الحياةَ والإدراكَ والإحساس.
ونحن نجد الذرَّةَ والنملَ والبعوضَ حيا مُدْركا مُلهماً لأمور ادخار الأقوات
وحفظِها وإظهارها ونفي ما يزيلُ العفنَ والفسادَ عنها إلى غير ذلك من
عجيب أفعالها، فيجوز أيضا إكمالُ عقل الذرة وما هو أصغرُ منها.
فإن قالوا: فيجوز أن يَنْطقَ ويُسال ويجيب، قيل كل ذلك صحيح في
المقدور، وإن لم تجريه عادة، فإن قالوا: فيجوز أن تَقْدِر الذرةُ على حمل