على هذه الجملة، وذلك أنه لم يُغْرِبْ لأَنْ جعلَ المطيَّ، في سرعة سيرها، وسهولته كالماء يجري في الأَبْطُحِ، فإنَّ هذا شَبَهٌ معروفٌ ظاهر، ولكنَّ الدِّقةَ واللطفَ في خصوصيةٍ أفادَها، بأنْ جعَلَ "سال" فعلاً "للأباطح"، ثم عدَّاه (بالباء) ثم بأَن أدخلَ الأعناقَ في البيت، فقال: "بأعناقِ المطيِّ"، ولم يَقُلْ: بالمطيِّ؛ ولو قال: سالتِ المطيُّ في الأَباطح، لم يَكُنْ شيئاً.
وكذلك الغرابة في البيت الآخر: ليس في مُطْلق معنى (سال) ولكنْ في تَعْديته "بعلى" و "الباء"، وبأن جعَلَه فِعْلاً لقوله: "شعابُ الحَيِّ". ولولا هذه الأمورُ كلُّها، لم يكن هذا الحُسْنُ. وهذا مَوضعٌ يَدِقُّ الكلامُ فيه.
وهذه أشياءُ من هذا الفن من البسيط:
اليومُ يومانِ مُذْ غَيِّبْتَ عن بَصَري
... نفْسي فداؤك ما ذَنْبي فأَعْتَذِرُ
أُمسي وأُصِبحُ لا ألقاكَ، وَاحَزَنَاً
... لقد تأَنَّق في مكرُوهِيَ القَدَر
سَوَّارُ بن المضَرَّب، وهو لطيف جداً من الوافر:
بِعَرْض تَنُوفةٍ للريحِ فيها
... نَسيمٌ لا يرُوعُ التُّرْبَ وانِ
بعضُ الأعراب من الكامل:
ولَرُبَّ خصمٍ جاهدين ذَوي شَذاً
... تَقْذي عُيونهُمُ بهترٍ هاتر
لُدِّ ظأَرْتُهُم على ما ساءَهُمْ
... وَخسَأْتُ باطِلَهم بحَقِّ ظاهرِ
ابنُ المعتز من السريع:
حتى إذا ما عَرف الصيدَ أنْصَارْ
... وأَذِن الصبح لنا في الإبصارْ
المعنى: حتى إذا تهيأ لنا أن نُبصر شيئاً. لمَّا كان تعذُّرُ الإبصار مَنْعاً من الليل، جَعَل إمكانه عند ظُهور الصبح إذْناً من الصبح.
وله من مجزوء الوافر:
بخيلٌ قد بُليتُ به
... يَكُدُّ الوعدَ بالحجج
وله من الطويل:
يُنَاجينيَ: الإخلافَ مِنْ تحتِ مَطْلهِ
... فتَخصمُ الآمال واليأسُ في صدري
ومما هو في غاية الحسن وهو من الفن الأول قول الشاعر أنشده الجاحظ من الطويل:
لقد كنتَ في قوم عليك أشحَّةٍ
... بنَفْسِكَ إلا أنَّ ما طاحَ طائحُ
يَوَدُّونَ لو خاطوا عليكَ جلودَهُمْ
... ولا تَدفعُ الموت النفوسُ الشحائحُ
قال: وإليه ذهب بشار في قوله من الزجر:
وصاحبِ كالدُّمَّلِ الْمُمِدِّ
... حملْتُهُ في رُقعةٍ من جلدي