فإن قلْتَ: أفلَيْسَ هو كلاماً قد اطَّرد على الصواب، وسَلِم من العَيْب؟ أَفَما يكونُ في كثرة الصوابِ فضيلةٌ؟ قيل: أَمّا والصوابُ كما ترى، فَلاَ! لأنَّا لَسْنا في ذكْر تقويم الِلسان، والتحرُّز من اللَّحْن، وزَيْغ الإعراب، فنَعْتدَّ بمثل هذا الصواب، وإنما نحن في أمورٍ تُدرَك بالفِكَر اللطيفة، ودقائقَ يُوصلُ إليها بثاقِب الفَهْم؛ فليس دَركُ صوابٍ دَركاً فيما نحن فيه حتى يَشْرُفَ موضعُه، ويَصعُبَ الوصولُ إليه؛ وكذلك لا يكونُ تَرْكُ خطأٍ تَرْكاً، حتى يُحتاجَ في التحفظ منه إلى لُطْف نظَرٍ، وفَضْل رويةٍ، وقوة ذهن، وشدةِ تيقظٍ. وهذا باب يَنبغي أن تُراعِيَه، وأن تُعْنى به، حتى إذا وازنْتَ بين كلام وكلام، دريتْ كيف تَصْنعُ؛ فضمَمْتَ إلى كل شَكْلٍ شكْلَه، وقابلْته بما هو نظيرٌ له، وميَّزْتَ ما الصنعةُ منه في لفظه، مما هي منه في نظمه.
واعلمْ أنَّ هذا - أعني الفرق بين أن تكونَ المزيةُ في اللفظ، وبين أن تكون في النظم - بابٌ يَكْثُر فيه الغَلطُ؛ فلا تزَالُ تَرى مُستحسِناً قد أخطأَ بالاستحسانِ موضعَه، فينَحَلُ اللفظَ ما ليس له، ولا تزالُ تَرى الشُّبهةَ قد دخلتْ عليك في الكلام، قد حَسُنَ من لفظه ونظمه، فظننْتَ أنَّ حُسْنه ذلك كلَّه، لِلَّفظِ منه دون النظْم.
مثال ذلك أن تَنْظُر إلى قول ابن المعتز من الطويل:
وإنِّي على إشفاقِ عَيْني مِن العِدى
... لَتَجْمَح مني نَظرةٌ ثم أُطْرِقُ
فترَى أنَّ هذه الطَّلاوةَ وهذا الظَّرْفَ، إنما هو لأَنْ جعَلَ النظرَ يَجْمحُ، وليس هو لذلك، بل لأَنْ قال، في أول البيت "وإني"، حتى دخل اللام في قوله "لتجمح"، ثم قوله "مني"؛ ثم لأَنْ قال "نظرة" ولم يقل (النظر) مثلاً، ثُمَّ لمكان "ثُم" في قوله: "ثم أُطرِق"، ولِلطيفةٍ أُخرى نَصَرتْ هذه اللطائفَ، وهي اعتراضُه بين اسم إنَّ وخبرها، بقوله "على إشفاق عيني من العدى".
وإن أردتَ أعجبَ من ذلك، فيما ذكرتُ لك، فانظرْ إلى قوله: - وقد تقدم إنشاده قَبْلُ -من البسيط:
سالتْ عليه شِعابُ الحيِّ حين دَعا
... أنصارَه بوجوهٍ كالدنانيرِ