حَريصٌ على الدنيا مُضِيعٌ لدِينِهِ
... وليس لِمَا في بيته بمُضِيعِ
فتأمَّل الآنَ هذه الأبياتَ كلها، واسْتَقْرِها واحداً واحداً، وانظرْ إلى موقعها في نفسك، وإلى ما تَجدُه من اللطفِ والظَّرْفِ، إذا أنتَ مررْتَ بموضع الحَذْفِ منها، ثم قلَبْتَ النفسَ عما تَجدُ وأَلْطفْتَ النظَرَ فيما تُحِسُّ به. ثُمَّ تَكلَّفْ أَن تَرُدَّ ما حذَفَ الشاعرُ، وأن تُخرجَه إلى لفظك، وتُوقِعَه في سمعكَ، فإنك تَعلمُ أنَّ الذي قلتُ كما قلتُ، وأنْ رُبَّ حَذْفٍ هو قِلادَةُ الجِيد، وقاعدةُ التجويد؛ وإنْ أردتَ ما هو أَصْدقُ في ذلك شهادةً، وأدلُّ دلالةً، فانظرْ إلى قول عبد الله بن الزبير يذكُر غريماً له قد أَلَحَّ عليه من الطويل:
عرَضْتُ على زيدٍ ليأخذَ بعضَ ما
... يُحاوِلُه قَبْلَ اعتراضِ الشَّواغِلِ
فدَبَّ دبيبَ البغْلِ يأْلَمُ ظَهْرُهُ
... وقال تَعلَّمْ أَنني غيرُ فاعلِ
تثاءَبَ حتى قلْتُ: داسِعُ نفْسِه
... وأَخْرَجَ أنياباً له كالمَعَاوِلِ
الأَصلُ: حتى قلتُ: هو داسِعُ نفْسِه) أي حسبْتُه من شدة التثاؤب، وممَّا به من الجهْدِ، يقذف نفْسَه من جوفه، ويُخرجُها من صدره، كما يدْسَعُ البعيرُ جِرَّته. ثم إنك تَرى نصْبةَ الكلام وهيئتَه، تَرومُ منك أن تَنْسى هذا المبتدأ، أو تُباعِدَه عن وَهْمك، وتَجتهدُ أن لا يدورَ في خَلَدِكَ، ولا يَعْرِضَ لخاطرك؛ وتَراكَ كأنك تَتوقَّاه تَوقِّيَ الشيءِ يُكْرَهُ مكانُه، والثقيلِ يُخشَى هجُومُه.
ومن لطيف الحَذْف، قولُ بكْر بن النَّطَّاح من السريع:
العَينُ تُبْدي الحبَّ والبُغْضا
... وتُظْهِرُ الإبرامَ والنَّقْضا
دُرَّةُ ما أَنصفْتِنِي في الهوى
... ولا رَحِمْتَ الجَسَدَ المُنْضَى
غَضْبَى ولا واللهِ يا أَهلَها
... لا أَطْعمُ البارِدَ أو تَرْضى
يقول في جاريةٍ كان يُحبُّها وسُعِيَ به إلى أهلها، فمنعوها منه. والمقصود قوله (غضبى)، وذلك أن التقدير "هي غضبى" أو "غضبى هي" لا محالة. إلاَّ أَنك ترى النفسَ كيف تتفادى من إظهار هذا المحذوفِ، وكيف تأنَسُ إلى إضماره، وتَرى الملاحةَ كيف تَذهبُ إن أنتَ رُمْتَ التكلم به.