واعلمْ أنه ربما اشتَبهتْ الصورةُ في بعض المسائل من هذا الباب، حتى يُظنَّ أنَّ المعرفتين إذا وقعتا مبتدأ وخبراً، يختلف المعنى فيهما بتقديم وتأخير؛ ومما يُوهم ذلك قولُ النحويين في (باب كان): إذا اجتمعَ معرفتانِ، كنتَ بالخِيار في جعْلِ أيهما شئتَ اسماً والآخر خَبراً، كقولك: (كان زيدٌ أخاك وكان أخوك زيداً) فيُظَنُّ مِنْ ههنا أنَّ تكافؤَ الاسمينِ في التعريف، يقتضي أن لا يَختلِف المعنى بأن تَبدأَ بهذا وتُثَنِّي بذاك، وحتى كان الترتيبُ الذي يُدَّعى بين المبتدأ والخبر وما يُوضع لهما من المنزلة في التقدم والتأخر، يسقط ويرتفع إذا كان الجزآن معاً معرفتين.
ومما يُوهم ذلك أنك تقول: (الأميرُ زيد وجئتُك والخليفةُ عبدُ الملك). فيكون المعنى على إثبات الإمارة لزيدٍ، والخلافةِ لعبد الملك، كما يكون إذا قلت: (زيدٌ الأميرُ وعبدُ الملك الخليفة). وتَقولُه لمن يُشَاهِدُ ومَنْ غائبٌ عن حضرة الإمارة ومعْدِن الخلافة. وهكذا مَنْ يتوهَّمُ في نحو قوله من الطويل:
أبوك حُبابٌ سارقُ الضيف بُرْدَهُ
... وجَدِّيَ يا حَجَّاجُ فارسُ شَمَّرا
أنه لا فَصْلَ بينه وبين أن يقال: (حبابٌ أبوك وفارس شمَّر جَدِّي). وهو موضع غامض. والذي يُبيِّن وجهَ الصواب ويدلُّ على وجوب الفرق بين المسألتين، أنك إذا تأملْتَ الكلام وجدْتَ ما لا يَحْتَمِلُ التسوية وما تجدُ الفرْقَ قائماً فيه قياماً لا سبيل إلى دَفْعه، هو الأَعَمَّ الأكثر. وإن أردتَ أَنْ تعرف ذلك، فانظرْ إلى ما قدَّمتُ لك من قولك: (اللابسُ الديباجَ زيدُ)؛ وأنتَ تُشير له إلى رجلٍ بين يديه؛ ثم انظرْ إلى قول العَرب: (ليسَ الطِّيبُ إلا المِسْك). وقول جرير من الوافر:
ألستُمْ خيرَ مَنْ رَكبَ المطايا
ونحو قول المتنبي من الوافر:
ألستَ ابنَ الأولى سَعِدوا وسادوا
وأشباهِ ذلك مما لا يُحصى ولا يُعَدُّ. وأرِدِ المعنى على أن يسلم لك مع قلب طَرَفَيْ الجملة وقل: (ليس المسكُ إلا الطيبَ): و: "أليس خيرُ مَنْ ركب المطايا إياكم) و: (أليس ابنُ الأولى سعِدوا وسادوا إياك؟) تعلمْ أنَّ الأمر على ما عرَّفْتُك من وجوبِ اختلاف المعنى، بحسب التقديم والتأخير.