وإن أردتَ أنْ تعرِفَ مالَه بالضِّدِّ من هذا فكان منقوصَ القوَّة في تأدية ما أُريد منه، لأنه يتعرِضُه ما يَمنعه، أن يَقْضيَ حقَّ السِّفارةِ فيما بينكَ وبين معناكَ، ويُوضحَ تمامَ الإيضاحِ عن مَغْزاك، فانظرْ إلى قول العباس بن الأحنف من الطويل:
سأطلُبُ بُعْدَ الدارِ عنْكُمْ لِتَقْرَبوا
... وتَسْكُبُ عينايَ الدموعَ لِتَجْمُدا
بدأَ فدلَّ بسَكْبِ الدموعِ على ما يُوجِبه الفِرَاقُ من الحُزْن والكَمَد، فأحْسَنَ وأصابَ، لأنَّ مِن شأنِ البكاءِ أبداً أن يكون أمارةً للحُزنِ، وأنْ يُجْعَلَ دلالةً عليه وكنايةً عنه، كقولهم: أبكاني وأضْحكَني، على معنى: "ساءني وسرَّني".
وكما قال من السريع:
أبكانيَ الدهرُ ويا رُبّما
... أضْحَكني الدهْرُ بما يُرْضي
ثم ساقَ هذا القياسَ إلى نقيضِه، فالتمس أن يَدُلَّ على ما يُوجبهُ دوامُ التلاقي من السرور، بقوله "لتجمدا" وظنَّ أنَّ الجمودَ يَبْلغُ له في إفادةِ المسرَّة والسلامةِ من الحُزْن، ما بَلَغَ سكْبُ الدمع في الدلالةِ على الكآبةِ والوقوعِ في الحزن. ونظرَ إلى أن الجمودَ خُلُوُّ العينِ من البَكاء، وانتفاءُ الدموعِ عنها، وأنه إذا قالَ "لتجمدا" فكأنَّه قال: أحْزنُ اليومَ لئلا أحزنَ غداً، وتبكي عينايَ جُهْدَهما لئلا تبكِيا أبدا؛ وغَلِطَ فيما ظنَّ وذاك، أنَّ الجمودَ هو أنْ لا تبكي العينُ، مع أنَّ الحالَ حالُ بكاء، ومع أن العينَ يرادُ منها أن تبكي ويُشْتكى مِنْ أنْ لا تَبْكي، ولذلك لا ترَى أحداً يذكُرُ عينَه بالجمودِ، إلا وهو يَشْكُوها ويذُمُّها وينسبها إلى البُخْل، ويَعُدُّ امتناعَها من البكاءِ تَرْكاً لمعونةِ صاحبِها على ما بهِ من الهَمِّ، ألا ترى إلى قولهِ من الطويل:
ألاَ إنّ عَيناً لم تَجُدْ يومَ واسِطٍ
... عليكَ بِجارِي دَمْعِها لَجَمُودُ