فانظرْ إلى قوله: (إنَّ غِناءَ الإبلِ الحداءُ). وإلى ملاءمته الكلامَ قبلَه، وحسْنِ تشبثِه به، وإلى حُسْن تعطُّفِ الكلامِ الأول عليه! ثم انظرْ إذا تركتَ "إنَّ" فقلتَ: (فغنِّها وهي لك الفداءُ، غناء الإبل الحداءُ) كيف تكونُ الصورةُ وكيفَ يَنْبو أحَدُ الكلامَيْن عن الآخر، وكيف يُشئِم هذا ويُعْرِق ذاك، حتى لا تَجدَ حيلةً في ائتلافهما. حتى تَجْتَلِبَ لهما (الفاءَ) فتقول: (فغنِّها وهي لكَ الفداءُ فغناءُ الإبلِ الحُداء)؛ ثم تعلَّمْ أنْ ليستِ الأُلفةُ بينهما مِنْ جنسِ ما كان، وأنْ قد ذَهبتِ الأنَسَة التي كنتَ تَجِدُ، والحُسْنُ الذي كنتَ ترى.
ورويَ عن عنبسة أنه قال: قدِمَ ذو الرمة الكوفةَ، فوقفَ يُنشِدُ الناسَ بالكناسة قصيدته الحائية التي منها من الطويل:
هِيَ البُزءُ والأسقامُ والهمُّ والمُنى
... وموتُ الهوى في القلب مني المبرِّحُ
وكان الهوى بالنأْي يُمْحَى فيمَّحي
... وحُبُّكِ عندي يَستجِدُّ ويَرْبَحُ
إذا غيَّرَ النّّأيُ المحبِّينَ لم يَكَدْ
... رسَيسُ الهوى مِنْ حُبِّ ميَّةَ يَبْرَحُ
قال: فلما انتهى إلى هذا البيت، ناداه ابنُ شُبْرُمَة: يا غيلانُ! أراه قد بَرِحَ قال: فشنَق ناقته وجعَل يتأَخَّر بها ويتفكَّرُ، ثم قال:
إذا غيَّر النأيُ المحبينَ لم أَجِدْ
... رسَيسَ الهوى مِن حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ
قال: فلما انصرفتُ، حدثتُ أبي. قال: أخطأَ ابنُ شُبْرُمة حين أنكَرَ على ذي الرمة، وأخطأ ذو الرمة حين غيَّر شِعْرَه لقول ابن شبرمة، إنما هذا كقولِ اللهِ تعالى: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} النور: 40. وإنما ولم يَرَها ولم يكد.