"واعلم أنْ لم نُرِدْ بما قلناه من أنه إنَّما حَسُنَ الابتداء بالنكرة في قولهم: "شَرٌّ أهرَّ ذا ناب"، لأنه أُريد به الجنس أَنَّ معنى شرٌّ والشرُّ سواءٌ، وإنما أردنا أنَّ الغرض من الكلام أن تبيِّن أنَّ الذي أهرَّ ذا الناب، هو جنس الشر لا جنس الخير".
تسعُ حروف "أنْ" و "أَنَّ " و "إِنَّ" بقدر ما عملتُ على توضيح المراد في قلب الكاتب، أوقعتِ القارئ في وطأة البحث عن ترابط المعنى واستيعابه بيُسْر ..
ويمتاز أسلوب الجرجاني في هذا الصدد، بنمط آخر شاع في آثار القدامى، وندَرَ حديثاً، ألا وهو مَيْله إلى ما سمَّيتُه "الجواب المستدير أو المداوِر" فيعبّر عن المعنى من فوق المعنى أو من حوله، كقوله أثناء شرحه وتحليله لقول الناس: الشجاع موقَّى والجبانُ مُلقَّى":
"
... ليس القصدُ أن تأتي إلى شجاعات كثيرة (
... ) بل المعنى على أنك تقول: كنَّا قد عقَلْنا الشجاعة وعرفنا حقيقتها (
... ) ولو كان المعنى على أنه استغرق الشجاعات
... كما قالوا إنه بمعنى الكامل في الشجاعة، لأنَّ الكمال هو أن تكون الصِّفة على ما ينبغي أن تكون عليه .. ".
يقتضي التعبيرُ المباشر أن يقال: (
... بل المعنى أن تقول: كنا قد عقلنا .. ولو كان المعنى استغراق الشجاعات، لما قالوا
... )، فلم يرقْ ذلك لأبي بكر الجرجاني، بل رسمَ لمقصده الفكري دائرةً عرَّج بها على المعنى، أو قفَز من فوقه بوساطة حرفِ الجر "على" تاركاً في فضاء المدى تموُّجاتِ سؤال حائرٍ عن البعد البلاغي لمثل هذه الصيغة اللغوية المستعلية على ذاتها الباحثة عن غور حقيقةٍ تستقر فيه!!