ناهضتَهُمْ والبارقاتُ كأنَّها
... شُعَلٌ على أيديهِمُ تَتَلهَّبُ
فإنَّ هذا التشبيه لا يبلُغُ مَبْلَغَ ما يُعْرَفُ مَعَ الإطلاق كمعرفتنا إذا قال: (رأيتُ أسداً): أنهُ يُريد الشجاعة. وإذا قال: (لقيتُ شسماً وبدراً): أنه يُريدُ الحُسْنَ، ولا يقوى تلك القوَّة، فاعرفْه! "
وممَّا طريقُ المَجاز فيه الحكْمُ قولُ الخنساء من البسيط:
تَرْتَعُ ما رتعَتْ حتى إذا ادَّكَرَتْ
... فإنَّما هي إقْبالٌ وإِدبارُ
وذاك أنها لم تُرِدْ بـ (الإقبال والإدبار) غيرَ معناهما، فتكونَ قد تجوَّزت في نفسِ الكلمةِ، وإنما تجوَّزَتْ في أَنْ جعلَتْها لكثرة ما تُقبِلُ وتُدْبِرُ ولِغَلَبة ذاكَ عليها واتصالِه بها، وأنه لم يَكْن لها حالٌ غيرَهما، أنها قد تجسَّمتْ من الإقبال والإدبار. وإِنما كان يكون المجازُ في نفْس الكلمةِ لو أنها كانت قد استعارت الإقبالَ والإدبارَ لمعنىً غير معناهما الذي وُضعا له في اللغة، ومعلوم أن ليس الاستعارة مما أرادته في شيء.
واعلمْ أنْ ليس بالوجه، أنْ يُعَدَّ هذا على الإطلاق، مَعدَّ ما حُذِفَ منه المضاف، وقيم المضاف إليه مُقامه، مثلَ قولِه عزَّ وجل: {وَسْئَلِ القرية} يوسف: 82.
ومثلَ قولِ النابغة الجعديّ من المتقارب:
وكيفَ تُواصِلُ مَنْ أصْبَحَتْ
... خُلاَلَتُهُ كأبي مَرْحَبِ
وقولِ الأعرابي من الوافر:
حَسِبْتَ بُغَام راحلتي عنَاقا
... وما هي وَيْبَ غَيْرِك بالعَنَاقِ
وإنْ كنَّا نراهم يذكرونَه حيثُ يذكرونَ حذْفَ المضافِ ويقولون إنه في تقدير "فإنما هي ذات إقبال وإدبار" ذاك لأنَّ المضافَ المحذوفَ مِن نحو الآية والبيتينِ، في سبيل ما يُحْذفُ من اللفظ ويراد في المعنى، كمثل أن يُحْذَفَ خبرُ المبتدأ أَو المبتدأُ، إذا دَلَّ الدليلُ عليه، إلى سائر ما إذا حُذِفَ كان في حكْم المنطوق به؛ وليس الأمرُ كذلك في بيت الخنساء، لأنَّا إذا جعلْنا المعنى فيه الآن، كالمعنى إذا نحنُ قلنا: (فإنما هي ذاتُ إقبال وإدبار)، أفسَدْنا الشِّعرَ على أنفسِنا وخرَجْنا إلى شيء مغسول، وإلى كلامٍ عامِّيٍّ مرذولٍ، وكان سبيلنا سبيلَ مَنْ يَزْعُم مثلاً في بيتِ المتنبي من الوافر: