أراد كما لا يخفى، أنْ يُثْبِتَ هذه المعانيَ والأوصافَ خلالاً للممدوحِ وضرائبَ فيه، فتركَ أن يُصرَّحَ فيقولَ: إنَّ السماحةَ والمروءةَ والندى لمجموعةٌ في ابن الحَشْرج، أو مقصورةٌ عليه، أو مختصَّة به، وما شاكَلَ ذلك مما هو صريحٌ في إثباتِ الأوصافِ للمذكورين بها، وعدَلَ إلى ما ترى من الكناية والتلويح، فجعل كونَها في القُبَّة المضروبةِ عليه، عبارةً عن كونها فيه، وإشارةً إليه؛ فخرَجَ كلامُه بذلك إلى ما خَرَجَ إليه من الجَزالةِ، وظهرَ فيه ما أنت تَرى من الفخَامة. ولو أنه أَسْقَط هذه الواسِطَة من البَيْن لما كان إلا كلاماً غُفْلاً، وحديثاً ساذجاً. فهذه الصنعةُ في طريقِ الإثباتِ هي نظيرُ الصنعةِ في المعاني، إذا جاءتْ كناياتٍ عن معانٍ آخَر نحو قوله من الوافر:
وما يَكُ فيِّ مِنْ عَيبٍ فإنِّي
... جبانُ الكلبِ مهزولُ الفَصيل
فكما أَنَّه إنما كان مِنْ فاخرِ الشِّعر وممَّا يقَعُ في الاختيار لأجْل أَنْ أَرادَ أنْ يذْكُرَ نفسَه بالقرى والضيافةِ، فكنَّى عن ذلك بجُبْنِ الكَلْب وهُزالِ الفصيل وتَرَكَ أن يُصرِّحَ فيقولَ: (قد عُرِفَ أنَّ جَنابِي مألوفٌ وكلبي مؤدَّبٌ لا يَهِرُّ في وجوهِ مَنْ يَغْشاني من الأضيافِ؛ وإني أَنْحَرُ المَتَالِى من إبلي وأَدَعُ فِصالَها هَزْلى). كذلك إنما راقَكَ بيتُ زياد لأنه كنَّى عن إثباتِه السماحة والمروءةَ والندى، كائنةً في الممدوح، بجعلها كائنةً في القبةِ المضروبةِ عليه.
هذا - وكما أنَّ مِنْ شأنِ الكنايةِ الواقعةِ في نفسِ الصفةِ أن تجيءَ على صورٍ مختلفةٍ، كذلك مِنْ شأنها إذا وقعَتْ في طريقِ إثباتِ الصفةِ أنْ تجيءَ على هذا الحدِّ، ثم يكونُ في ذلك ما يتناسَبُ كما كان ذلك في الكناية عن الصفةِ نفسِها. تفسيرُ هذا أنك تَنظُرُ إلى قولِ يزيد بن الحَكَم يمدح به يزيدَ بن الُهَلَّبِ وهو في حبْس الحجَّاج من المنسرح:
أصْبَحَ في قَيْدِكَ السَّماحة والمَجْـ
... ـدُ وفضلُ والصلاحِ والحسَبُ
فتراه نظيراً لبيتِ زياد، وتَعْلم أنَّ مكان "القيد" ههنا هو مكانُ "القبة" هناك، كما أنَّك تَنْظُر إلى قوله: (جبانُ الكلب)، فتعْلَم أنَّه نَظيرٌ لقوله من الطويل: