ثم إنَّ الأصْلَ الذي ينبغي أنْ يكونَ عليه البناءُ، هو الذي دُوِّن في الكتبِ من أنها للتأكيد، وإذا كان قد ثَبَت ذلكَ، فإذا كان الخبرُ بأمْرٍ ليس للمخاطَبِ ظنٌّ في خلافه البتَّةَ، ولا يكونُ قد عقَدَ في نفسه أنَّ الذي تزعُم أَنه كائن، غيرُ كائنٍ، وأنَّ الذي تزعُم أنه لم يكن، كائنٌ، فأنتَ لا تحتاج هناك إلى "إنَّ" وإنما تحتاج إليها إذا كان له ظَنُّ في الخلاف، وعقْدُ قلبٍ على نَفْى ما تُثْبِتُ أو إثباتِ ما تَنْفي. ولذلك تَراها تزدادُ حُسْناً إذا كان الخبرُ بأمر يَبْعُدُ مثْلُه في الظنِّ وبشيءٍ قد جرتْ عادةُ الناسِ بخلافِهِ، كقول أبي نُوَاس من الرجز:
... عليكَ باليأسِ منَ الناسِ
... إنَّ غِنى نَفْسِك في الياسِ
فقد تَرى حُسْنَ موقعِها، وكيف قبولُ النفس لها؛ وليس ذلك إلاَّ لأنَّ الغالِبَ على الناس أنهم لا يَحمِلون أنفسَهم على اليأس، ولا يدَعُونَ الرجاءَ والطمَعَ، ولا يعترفُ كلُّ أحدٍ ولا يُسلِّمُ أنَّ الغِنى في اليأس. فلمَّا كان كذلك، كان الموضعُ مَوْضعَ فقرٍ إلى التأكيدِ، فلذلك كان من حُسْنها ما تَرى. ومثلُه سواءٌ قولُ محمد بن وهيب من الطويل:
أجارَتَنا إنَّ التعفُّفَ بالياسِ
... وصَبْرٌ على استذرارِ دُنْيا بإبْساسِ
حَرِيَّانِ أنْ لا يَقْذِفا بمذلَّةٍ
... كريماً وأن لا يُخوجاه إلى الناسِ
أجارَتنا إنَّ القِداحَ كواذبٌ
... وأكْثرُ أسبابِ النجاحِ مع الياسِ
هو كما لا يخفى كلامٌ معَ مَنْ لا يَرى أنَ الأمْرَ كما قال، بل يُنْكِرهُ ويَعْتقد خلافَه. ومعلومٌ أنه لم يقلْه إلا والمرأةُ تَحْدوهُ وتبعثُه على التعرُّضِ للناس وعلى الطَّلبِ.
ومن لطيفِ مواقعِها، أنْ يُدَّعى على المخاطَب ظَنَّ لم يظنَّه، ولكنْ يُرادُ التهكُّم به وأنْ يقال: إنَ حالَكَ والذي صنَعْتَ، يَقْتضي أن تكون قد ظننْتَ ذلك ومثالُ ذلك قولُ الأول من السريع:
جاءَ شقيقٌ عارضاً رُمْحَه
... إنَّ بَني عَمِّكَ فيهمْ رِماحْ