"لا يكون ارتداعٌ حتى يكونَ همٌّ وإرادةٌ، وليس بواجبٍ أن لا يكون إنسانٌ في الدنيا إلاَّ وله عَدوٌّ يَهمُّ بقتله ثم يردَعُه خوفُ القصاص، وإذا لم يجب ذلك، فمن لم يَهُمَّ بقتله فكُفيَ ذلك الهَمَّ لخوفِ القصاص، فليس هو ممن حَيَّ بالقصاص".
من خلال هذه الأمثلة، لا بد من الاعتراف بأن النص المحكم الذي يستخدمه المؤلف هو "نظم" من النسق الرفيع، له جمالُ وقعه ونكهة تتبُّعه وتحسس مجرى المعاني في سرِّه وإظهار ذلك للعيان بطريقة أو بأخرى.
ومن شروط النظم وطبيعته، قيامه على الكلمات، لا الحروف، باعتبار مكانها، وحسْن ملاءمة معناها لمعاني جاراتها، وفضل مؤانستها لأخَواتها. وهذا يعني أن تكون الكلمة فصيحة لا بحُروفها ولكن بما ينجم عنها وعن موقعها من أسباب الجمال والتأثير، بحيث لو حدثَ لها أي خلل مهما صغر، انعكس ذلك سلباً على واقع النص.
"وهل تجد أحداً يقول: هذه اللفظة فصيحة، إلاَّ وهو يعتبر مكانها من النظم، وحسْنَ ملاءمة معناها لمعنى جاراتها وفضل مؤانستها لجاراتها؟ وهل قالوا: لفظةٌ متمكنة ومقبولة، وفي خلافه؛ قلقلة ونابية، ومستكرهة، إلا وغرَضُهم أن يعبِّروا بالتمكن عن حسن الاتفاق بين هذه وتلك من جهة معناها، وبالقلق والنبوِّ عن سوء التلاؤم، وأنَّ الأولى لم تَلِقْ بالثانية في معناها، وأن السابقة لم تصلح أن تكون لِفْقاً للتالية في مؤدَّاها".
ولم يكتف المؤلف بهذا التوضيح الدقيق، بل عمد إلى التفريق بين "الحروف المنظومة" و "الكلم المنظومة" فقال:
"إنَّ نظم الحروف هو تواليها في النطق فقط، وليس نظمها بمقتضىً عن معنى .. (
... ) فلو أن واضع اللغة كان قد قال: (ربض) مكان (ضرب) لما كان في ذلك ما يؤدي إلى فَسَاد. وأما نظم الكَلِم فليس الأمر فيه كذلك، لأنك تقتضي في نظمها آثار المعاني وتُرتِّبها على حسب ترتيب المعاني في النفس، فهو إذن نظمٌ يعتبر فيه حال المنظوم بعضه مع بعضٍ، وليس هو النظم الذي معناه ضمُّ الشيء إلى الشيء كيف جاء واتفق".