ولكنْ أيادٍ صادفَتْني جِسَامُها
... أغرَّ فأَوفَتْ بي أغرَّ مُحجَّلا
وفي كتاب "الشعر والشعراء" للمرزُباني فصلٌ في هذا المعنى حسَنٌ قال: "ومن الأَمثال القديمة قولهم "حَرًّا أخافُ على جاني كَمأَةٍ لا قُرّاً" يُضرَب مثلاً للذي يَخافُ مِن شيءٍ فيَسْلمُ منه، ويُصِيبهُ غيرهُ مما لم يَخَفْهُ، فأخذَ هذا المعنى بعضُ الشعراء فقال من الكامل:
وحَذِرْتُ مِنْ أَمْرٍ فمرَّ بِجانبي
... لم يُنْكِني ولَقِيتُ ما لَمْ أَحْذَرِ
وقال لبيد من المنسرح:
أَخْشى على أَرْبَدَ الحتُوفَ ولا
... أرْهَبُ نَوْءَ السّماكِ والأَسدِ
قال: وأخذَه البحتريُّ فأحسن، وطغى اقتداراً على العبارة واتِّساعاً في المعنى فقال من الكامل:
لو أنني أُوفي التجاربَ حَقَّها
... فيما أرَتْ لَرجَوْتُ ما أَخْشاهُ
وشبيهُ بهذا الفصْلِ فصلٌ آخر من هذا الكتاب أيضاً. أنشد لإبراهيم ابن المهدي من السريع:
يا مَنْ لِقَلْبِ صِيغَ من صَخْرةٍ
... في جَسَدٍ من لؤلؤٍ رطْبِ
جرحتُ خدَّيْه بلحْظي فَمَا
... بَرِحْتُ حتى اقتصَّ مِنْ قلبي
ثم قال: قال علي بن هارون أخذه أحمد بن أبي فَنَن معنىً ولفظاً فقال من الكامل:
أَدْمَيْتُ باللحظاتِ وجْنَتَهُ
... فاقتصَّ ناظرُهُ من القَلْبِ
قال: ولكنه بنقاء عبارته وحُسْنِ مأخذه قد صار أَوْلى به: ففي هذا دليل لِمن عقَلَ أَنهم لا يَعْنونَ بحُسْنِ العبارة مجَّردَ اللفظِ ولكنْ صورةً وصِفةً وخصوصيةً في المعنى، وشيئاً طريقُ معرفتِه على الجملة، العقلُ دون السمْع؛ فإنه على كلِّ حالٍ لم يَقُلْ في البحتري إنه أحْسَن فطغى اقتداراً على العبارةِ من أَجْلِ حروف:
لو أنني أوفي التجاربَ حقها
وكذلك لم يصِفْ ابنَ أبي فَنن بنقاء العبارة من أجْل حروف:
أَدْمَيْتُ باللحظاتِ وجْنَتَهُ
غلط قياس الكلام على الكلم في الفصاحة