ثم إنَّ العجَبَ كلَّ العجَبِ، ممَّنْ يَجعَلُ كلَّ الفضيلةِ في شيءٍ هو إذا انْفَرَد لم يَجِبْ به فضْلٌ البتَّةَ، ولم يَدْخُل في اعتدادٍ بحالٍ، وذلك أنه لا يَخْفى على عاقلٍ أنه لا يكونُ بسهولةِ الألفاظِ وسلامَتِها مما يثْقُل على اللسانِ، اعتدادٌ، حتى يكونَ قد أُلِّفَ منها كلامٌ، ثم كان ذلك الكلامُ صحيحاً في نَظْمه والغرضِ الذي أُريدَ به، وأنه لو عَمد عامدٌ إلى ألفاظٍ فجَمعها مِن غير أن يُراعيَ فيها معنىً ويُؤلِّف منها كلاماً، لم ترَ عاقلاً يعتدُّ السهولةَ فيما فضيلةً، لأنَّ الألفاظَ لا تُرادُ لأنفسها وإنما تُرادُ لتُجعَلَ أدلَّةَ على المعاني؛ فإذا عَدِمَتِ الذي لهُ تُرادُ أو اختَلَّ أمرُها فيه، لم يُعْتَدَّ بالأوصافِ التي تكون في أنفُسها عليها، وكانت السهولةُ وغيرُ السهولةِ فيها واحداً، ومن هاهنا رأيتَ العلماء يَذمُّون مضنْ يَحْمِلُه تَطَلُّبُ السجعِ والتجنيسِ على أن يَضُمَّ لهما المعنى ويُدخِلَ الخلَلَ عليه مِن أجْلِهما، وعلى أَنْ يتعسَّف في الاستعارة بسَبَبهما، ويَرْكَبَ الوعورةَ، ويسلُكُ المسالِكَ المجهولةَ، كالذي صنَع أبو تمام في قوله من البسيط:
سيفُ الإمام الذي سمَّتْهُ هَيْبَتُهُ
... لمَّا تَخَرَّم أهلَ الأرضِ مخْترِما
قَرَّت بِقُرَّانَ عينُ الدينِ وانشترَتْ
... بالأشْتَرَيْنِ عيونُ الشِّرْكِ فاصطُلما
وقوله من الكامل:
ذهبَتْ بمَذْهَبهِ السماحةُ والْتَوَتْ
... فيه الظنونُ أمَذهَبُ أم مُذْهَبُ
ويَصْنعه المتكلفونَ في الأسجاعِ، وذلك أنه لا يُتصوَّر أن يَجِبَ بهما ومن حيثُ هما فضلٌ، ويقعَ بهما، مع الخُلوِّ من المعنى، اعتدادٌ. وإذا نظرتَ إلى تجنيس أبي تمام: (أمَذْهب أم مُذْهبَ) فاستضعتَه، وإلى تجنيس القائل من الرجز:
حتى نجا من خوفه وما نجا
وقول المحدث من الخفيف:
ناظِراهُ فيما جَنى ناظِراهُ
... أَوْدَعاني أمُتْ بما أودعاني