وفي الحديث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه - ذكره المرزباني في كتابه، بإسناد عن عبد الملك بن عمير - أنه قال: "أُتي عمرُ، رضوانُ الله عليه، بحُلَلٍ من اليمن، فأتاه محمد بن جعفر بن أبي طالب، ومحمد بن أبي بكر الصديق، ومحمد بن طلحة بن عبيد الله، ومحمد بن حاطب، فدخل عليه زيد بن ثابت رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين، هؤلاء المحمَّدون بالباب يطلبون الكُسْوة. فقال: ائْذِنْ لهم يا غلام! فدَعا بحُللٍ، فأخذ زيدٌ أجودَها، هذه لمحمد بن حاطب، وكانت أمه عنده، وهو من بني لؤي؛ فقال عمر رضي الله عنه: أيهات أيهات وتمثل بشعر عمارة بن الوليد من الطويل:
أَسرَّكِ لما صُرِّع القومُ نشوةً
... خروجيَ منها سالماً غير غارم
بريئاً كأني قبلُ لم أكُ منهمُ
... وليس الخداعُ مرتضىً في التنادم
رُدَّها. ثم قال: ائْتني بثوبٍ، فألقِهِ على هذه الحُلل. وقال: أدخلْ يدَكَ فخُذْ حُلَّة، وأنتَ لا تراها فأَعْطِهمْ. قال عبد الملك: "فلم أر قسمةً أعدلَ منها".
وعُمارة هذا: هو عمارةُ بن الوليد بن المغيرة، خطبَ امرأةً من قومه، فقالت: لا أتزوجُك أو تترك الشرابَ، فأبى، ثم اشتد وَجْدُه بها، فحلَفَ لها أنْ لا يشَرْبَ؛ ثم مرَّ بخمَّارٍ عنده شَرْبٌ يشربون، فدعَوْه فدخَلَ عليهم، وقد أنْفَدوا ما عندهم، فنَحَر لهم ناقتَه، وسَقاهم بِبُرْدَيْه، ومكَثوا أَياماً، ثم خرجَ، فأتى أَهْلَه، فلمَّا رأتْه امرأتُه قالت: أَلم تَحْلِفْ أَنْ لا تَشْرب؟ فقال:
ولسنا بشَرْب أمَّ عمرو إذا انْتَشَوْا
... ثيابُ الندامى عِنْدَهُمْ كالغنائم
ولكننا يا أمَّ عمروٍ نَديمُنا
... بمنزلةٍ الريَّانِ ليس بعائم
أَسَّرك - البيتين.
فإذنْ: رُبَّ هَزْلٍ صار أَداةً في جِدّ، وكلام جَرى في باطل، ثم استُعينَ به على حَقّ؛ كما أنه رُبَّ شيءٍ خَسيس، تُوصِّلَ به إلى شريف، بأنْ ضُرِبَ مَثلاً فيه، وجُعل مثالاً له: كما قال أبو تمام من الكامل:
واللهُ قد ضَربَ الأَقلَّ لنورِه
... مَثَلاً من المِشْكاة والنبراسِ