وقال آخر:
كحيَّةِ الماء بَينَ الطيِّ والشيد
وقد عاب قوم من الملحدة قوله تعالى، (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) وقالوا: ما الفائدة في ذكر: بئر معطلة وقصر مشيد، وأبدوا فيه وأعادوا، وهذا لجهلهم بجوهر الكلام وغامض المعاني وإشارة البلاغة، لأنّ الله تعالى ذكر هذا وما أشبهه على طريق العظة ليُعتبر بذلك، ألا تراه تعالى قال: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا)، يريد: لو صاروا لرأوا آثار قوم أهلكهم وأبادهم، وما زالت العرب تصف ذلك في خطبها ومقاماتها، يروى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنّه كان يقول في خطبته: (أين بانو المدائن ومحصنوها بالحوائط، أين مشيدو القصور وعامروها، أين جاعلو العجيب فيها لمن بعدهم. تلك منازلهم خاوية، وهذه منازلهم في القبور خالية (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)).
وكان سلمان إذا مر بخراب قال: يا خرب الخربين أين أهلك الأولون؟ - قال الأسود بن يعفر:
ماذَا أُؤَمِّلُ بَعْدَ آلٍ مُحرِّقٍ
... تَركُوا منَازِلَهُمْ وبعدَ إِيَادِ
هل الخَوَرْنَقِ والسَّدِيرِ وبارِقٍ
... والقَصْرِ ذِي الشُّرَفَاتِ من سِنْدَادِ
أَرضاً تَخَيَّرَها لِدَارِ أَبيهُمِ
... كَعْبُ بنُ مَامَةَ وابنُ أُمِّ دُؤَادِ
جَرَتِ الرِّياحُ على مكانِ دِيارِهِمُ
... فكأَنَّما كانوا عَلَى مِيعَادِ
نزَلُوا بِأَنْقُرَةٍ يَسِيلُ عليهمُ
... ماءُ الفُرَاتِ يَجيءُ مِنْ أَطْوَادِ
فإِذَا النَّعيمُ وكلُّ ما يُلْهَى به
... يوماً يَصيرُ إِلى بِلىً ونَفَادِ
ويروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنّه سمع رجلا ينشد هذه الأبيات فتلا (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28)).