عَجِبْت لِمَنْ لَا يَرْغَبُ فِي الْبَاءَةِ، وَاَللَّهُ يَقُولُ: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} النور: 32. وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «ثَلَاثَةٌ كُلُّهُمْ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُ: الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالنَّاكِحُ يُرِيدُ الْعَفَافَ، وَالْمُكَاتَبُ يُرِيدُ الْأَدَاءَ». فَإِنْ قُلْنَا: قَدْ نَجِدُ النَّاكِحَ لَا يَسْتَغْنِي. قُلْنَا: عَنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُغْنِيهِ بِإِيتَاءِ الْمَالِ، وَقَدْ يُوجَدُ ذَلِكَ.
الثَّانِي: يُغْنِيهِ عَنْ الْبَاءَةِ بِالْعِفَّةِ.
الثَّالِثُ: يُغْنِيهِ بِغِنَى النَّفْسِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ هَذَا كُلُّهُ عَلَى الدَّوَامِ؛ بَلْ لَوْ كَانَ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ لَصَدَقَ الْوَعْدُ.
وَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ عُلَمَائِنَا يَقُولُ: إنَّ هَذَا عَلَى الْخُصُوصِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْجَوَابِ الْأَوَّلِ. وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ: " النَّاكِحُ مُعَانٌ، وَالْمُكَاتَبُ مُعَانٌ، وَبَاغِي الرَّجْعَةِ مُعَانٌ ".
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ وَرَدَتْ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهَا قَدْ تَنَاوَلَتْ مُخْتَلِفَاتِ الْأَحْكَامِ؛ مِنْهَا وَاجِبٌ، وَمِنْهَا غَيْرُ وَاجِبٍ، وَمِنْهَا فِي الْبَالِغِ، وَمِنْهَا فِي الصَّغِيرِ، وَمِنْهَا فِي الثَّيِّبِ، وَمِنْهَا فِي الْبِكْرِ.
قُلْنَا: هَذَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْخِطَابِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ؛ وَأَقْرَبُ مِنْهُ الْآيَةُ الَّتِي تَلَوْنَاهَا آنِفًا فِي قَوْلِهِ: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ} النور: 31 إلَى آخِرِ الِاثْنَيْ عَشَرَ وَجْهًا، وَكُلُّ وَاحِدٍ يَخْتَلِفُ فِي بَابِهِ، وَالْخِطَابُ مُشْتَرَكٌ فِيهِمْ، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ يَخْتَلِفُ فِي التَّعَلُّقِ بِهِمْ.