وَنَحْوُهُ رَوَى وَهْبٌ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: قُلْت لِمَالِكٍ: هُوَ جَلَاؤُهُمْ عَنْ دَارِهِمْ؟ فَقَالَ لِي: الْحَشْرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَشْرُ الْيَهُودِ؛ قَالَ: وَإِجْلَاءُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْيَهُودَ إلَى خَيْبَرَ حِينَ سُئِلُوا عَنْ ذَلِكَ الْمَالِ فَكَتَمُوهُ فَاسْتَحَلَّهُمْ بِذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لِلْحَشْرِ أَوَّلٌ وَوَسَطٌ وَآخِرٌ؛ فَالْأَوَّلُ إجْلَاءُ بَنِي النَّضِيرِ، وَالْأَوْسَطُ إجْلَاءُ خَيْبَرَ، وَالْآخِرُ حَشْرُ الْقِيَامَةِ الَّذِي ذَكَرَهُ مَالِكٌ وَأَشَارَ إلَى أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ.
مَسْأَلَة وَقْت إجلاء بَنِي النضيرالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فِي وَقْتِهَا: قَالَ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ: كَانَتْ بَعْدَ بَدْرٍ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَالْوَاقِدِيُّ: كَانَتْ بَعْدَ أُحُدٍ، وَبَعْدَ بِئْرِ مَعُونَةَ، وَكَانَتْ عَلَى يَدَيْ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ، وَاخْتَارَ الْبُخَارِيُّ أَنَّهَا قَبْلَ أُحُدٍ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ.
مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنْ اللَّهِالْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} الحشر: 2: وَثِقُوا بِحُصُونِهِمْ، وَلَمْ يَثِقُوا بِاَللَّهِ لِكُفْرِهِمْ، فَيَسَّرَ اللَّهُ مَنَعَتَهُمْ، وَأَبَاحَ حَوْزَتَهُمْ.
وَالْحِصْنُ هُوَ الْعُدَّةُ وَالْعِصْمَةُ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعَرَبِ:
وَلَقَدْ عَلِمْت عَلَى تَوَقِّي الرَّدَى
... أَنَّ الْحُصُونَ الْخَيْلُ لَا مُدُنُ الْقُرَى
يَخْرُجْنَ مِنْ خَلَلِ الْقَتَامِ عَوَابِسَا
... كَأَنَامِلِ الْمَقْرُورِ أَقْعَى فَاصْطَلَى
وَلَقَدْ أَحْسَنَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي إصَابَةِ الْمَعْنَى، فَقَالَ:
وَإِنْ بَاشَرَ الْأَصْحَابُ فَالْبِيضُ وَالْقَنَا
... قِرَاهُ وَأَحْوَاضُ الْمَنَايَا مَنَاهِلُهُ
وَإِنْ يَبْنِ حِيطَانًا عَلَيْهِ فَإِنَّمَا
... أُولَئِكَ عِقَالَاتُهُ لَا مَعَاقِلُهُ
وَإِلَّا فَأَعْلِمْهُ بِأَنَّك سَاخِطٌ
... وَدَعْهُ فَإِنَّ الْخَوْفَ لَا شَكَّ قَاتِلُهُ
الْآيَة الثَّانِيَة قَوْلُهُ تَعَالَى وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبََ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} الحشر: 2.
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} الحشر: 2: ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: نُصِرْت بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، فَكَيْفَ لَا يُنْصَرُ بِهِ مَسِيرَةَ مَيْلٍ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَحَلَّةِ بَنِي النَّضِيرِ. وَهَذِهِ خِصِّيصَةٌ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُونَ غَيْرِهِ.
مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} الحشر: 2: فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: يُخْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ بِنَقْضِ الْمُوَادَعَةِ، وَبِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُقَاتَلَةِ؛ قَالَهُ الزُّهْرِيُّ.
الثَّانِي: بِأَيْدِيهِمْ فِي تَرْكِهِمْ لَهَا، وَبِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فِي إجْلَائِهِمْ عَنْهَا؛ قَالَهُ أَبُو عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ.
الثَّالِثُ بِأَيْدِيهِمْ دَاخِلَهَا، وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ خَارِجَهَا؛ قَالَهُ عِكْرِمَةُ.
الرَّابِعُ كَانَ الْمُسْلِمُونَ إذَا هَدَمُوا بَيْتًا مِنْ خَارِجِ الْحِصْنِ هَدَمُوا بُيُوتَهُمْ يَرْمُونَهُمْ مِنْهَا.
الْخَامِسُ كَانُوا يَحْمِلُونَ مَا يُعْجِبُهُمْ فَذَلِكَ خَرَابُ أَيْدِيهِمْ.
وَتَحْقِيقُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ: أَنَّ التَّنَاوُلَ لِلْإِفْسَادِ إذَا كَانَ بِالْيَدِ كَانَ حَقِيقَةً، وَإِنْ كَانَ بِنَقْضِ الْعَهْدِ كَانَ مَجَازًا، إلَّا أَنَّ قَوْلَ الزُّهْرِيِّ فِي الْمَجَازِ أَمْثَلُ مِنْ قَوْلِ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ مَنْ قَرَأَهَا بِالتَّشْدِيدِ أَرَادَ هَدْمَهَا، وَمَنْ قَرَأَهَا بِالتَّخْفِيفِ أَرَادَ جَلَاءَهُمْ عَنْهَا؛ وَهَذِهِ دَعْوَى لَا يُعَضِّدُهَا لُغَةٌ وَلَا حَقِيقَةٌ، وَالتَّضْعِيفُ بَدِيلُ الْهَمْزَةِ فِي الْأَفْعَالِ.
مَسْأَلَة قَوْلُهُ تَعَالَى فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِالْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} الحشر: 2: وَهِيَ كَلِمَةٌ أُصُولِيَّةٌ قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي مَوْضِعِهَا، وَمِنْ وُجُوهِ الِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ اعْتَصَمُوا بِالْحُصُونِ دُونَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَنْزَلَهُمْ اللَّهُ مِنْهَا، وَمِنْ وُجُوهِهِ أَنَّهُ سَلَّطَ عَلَيْهِمْ مَنْ كَانَ