ذَكَرَهُ فِي قِصَّةِ دَقُوقَاءَ؛ فَإِنَّ الْغَرَضَ مِنْ هَذَا التَّغْلِيظِ كُلِّهِ زَجْرُ الْحَالِفِ عَنْ الْبَاطِلِ، وَالرُّجُوعُ إلَى الْحَقِّ، وَرَهْبَتُهُ بِمَا يُحِلُّ مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ دَاعِيَةً لِلِانْكِفَافِ عَنْ الْبَاطِلِ وَالرُّجُوعِ إلَى الْحَقِّ، وَهُوَ مَعْنَى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} المائدة: 108.
وَقَدْ حَقَّقْنَا هَذَا الْغَرَضَ، فَقُلْنَا: إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مَا غَلَّظَ فِي كِتَابِهِ يَمِينًا، إنَّمَا قَالَ: فَيُقْسِمَانِ بِاَللَّهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} يونس: 53. وَقَالَ مُخْبِرًا عَنْ خَلِيلِهِ: {وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} الأنبياء: 57. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ».
وَلَكِنْ قَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «اتَّقُوا اللَّهَ، فَوَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ لَتَعْلَمُنَّ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا».
وَرَوَى النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد أَنَّ «خَصْمَيْنِ أَتَيَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُدَّعِي: الْبَيِّنَةُ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَيْسَ لِي بَيِّنَةٌ. فَقَالَ لِلْآخَرِ: احْلِفْ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ مَا لَهُ عَلَيْك شَيْءٌ، أَوْ مَا لَهُ عِنْدَك شَيْءٌ».
وَتَغْلِيظُ الْعَدَدِ فِي اللِّعَانِ، وَهُوَ التَّكْرَارُ، وَفِي الْقَسَامَةِ مِثْلُهُ.
وَزَعَمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ رَأَى ابْنَ مَازِنٍ قَاضِي صَنْعَاءَ يَحْلِفُ بِالْمُصْحَفِ وَيُؤْثِرُ أَصْحَابُهُ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَمْ يَصِحَّ.
وَأَمَّا التَّغْلِيظُ بِالْحَالِ فَرُوِيَ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ وَبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَحْلِفُ قَائِمًا مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ.
وَرَوَى ابْنُ كِنَانَةَ عَنْ مَالِكٍ: يَحْلِفُ جَالِسًا.
وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ يَحْلِفُ كَمَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِهَا إنْ قَائِمًا فَقَائِمًا، وَإِنْ جَالِسًا فَجَالِسًا؛ إذْ لَمْ يَثْبُتْ فِي أَثَرٍ وَلَا نَظَرٍ اعْتِبَارُ قِيَامٍ أَوْ جُلُوسٍ.