وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النِّسْيَانَ لَفْظٌ يَنْطَلِقُ عَلَى السَّاهِي وَالْعَامِدِ رَدًّا عَلَى أَهْلِ جَهَالَةٍ زَعَمُوا أَنَّ النَّاسِيَ وَالسَّاهِيَ لِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَهَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا مَعْرِفَةَ لَهُمْ بِاللُّغَةِ، وَقَصْدُهُمْ هَدْمُ الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَحَقَّقْنَا مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا». وَقُلْنَا: مَعْنَاهُ مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ تَرَكَهَا فَلْيُصَلِّهَا مَتَى ذَكَرَهَا. فَالسَّاهِي لَهُ حَالَةُ ذِكْرٍ، وَالْعَامِدُ هُوَ أَبَدًا ذَاكِرٌ؛ وَكُلُّ وَاحِدِ مِنْهُمْ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ فَرْضُ الْقَضَاءِ مَتَى حَضَرَهُ الذِّكْرُ دَائِمًا أَوْ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، وَبِهَذَا اسْتَقَامَ نِظَامُ الْكَلَامِ، وَاسْتَقَرَّ حُكْمُ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ.
مَسْأَلَة كُلُّ عَمَلٍ ظَاهِرِ الْجَوَازِ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى مَحْظُورٍالْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ:
قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ إثْبَاتِ الذَّرَائِعِ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا مَالِكٌ، وَتَابَعَهُ عَلَيْهَا أَحْمَدُ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ، وَخَفِيَتْ عَلَى الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ مَعَ تَبَحُّرِهِمَا فِي الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ كُلُّ عَمَلٍ ظَاهِرِ الْجَوَازِ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى مَحْظُورٍ، كَمَا فَعَلَ الْيَهُودُ حِينَ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ صَيْدَ السَّبْتِ، فَسَكَرُوا الْأَنْهَارَ، وَرَبَطُوا الْحِيتَانَ فِيهِ إلَى يَوْمِ الْأَحَدِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَدِلَّةَ الْمَسْأَلَةِ فِي كُتُبِ الْخِلَافِ، وَبَسَطْنَاهَا قُرْآنًا وَسُنَّةً وَدَلَالَةً مِنْ الْأُصُولِ فِي الشَّرِيعَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الَّذِي فَعَلَتْ الْيَهُودُ لَمْ يَكُنْ تَوَسُّلًا إلَى الصَّيْدِ؛ بَلْ كَانَ نَفْسَ الصَّيْدِ.
قُلْنَا: إنَّمَا حَقِيقَةُ الصَّيْدِ إخْرَاجُ الْحُوتِ مِنْ الْمَاءِ وَتَحْصِيلُهُ عِنْدَ الصَّائِدِ، فَأَمَّا التَّحَيُّلُ عَلَيْهِ إلَى حِينِ الصَّيْدِ فَهُوَ سَبَبُ الصَّيْدِ، لَا نَفْسُ الصَّيْدِ، وَسَبَبُ الشَّيْءِ غَيْرُ الشَّيْءِ؛ إنَّمَا هُوَ الَّذِي يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَيْهِ، وَيُتَوَسَّلُ بِهِ فِي تَحْصِيلِهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي فَعَلَهُ أَصْحَابُ السَّبْتِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ:
قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّمَا هَلَكُوا بِاتِّبَاعِ الظَّاهِرَةِ؛ لِأَنَّ الصَّيْدَ حُرِّمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: لَا نَصِيدُ، بَلْ نَأْتِي بِسَبَبِ الصَّيْدِ، وَلَيْسَ سَبَبُ الشَّيْءِ نَفْسَ الشَّيْءِ، فَنَحْنُ لَا نَرْتَكِبُ عَيْنَ مَا نُهِينَا عَنْهُ، فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْأَخْذِ بِالظَّاهِرِ الْمُطْلَقِ فِي الشَّرِيعَةِ.