وما أحلى قوله: "فقيه المعاني" يعني من أعطاه الله فهما وفقها في معاني القرآن العزيز فهذا هو الذي يحتقر الدنيا عند تلاوته لهذه الآية ونظائرها لا الفقيه الذي هو أسير الذوائب المتقيد بلباسه وخدمة أهل الدنيا ففقيه المعاني محرر عن رق الأشياء، ويحتمل قوله: هو الحر معاني أخر ذكرناها في الكبير، والحري بمعنى الحقيق، والحواري: الناصر الخالص في ولائه والياء مشددة خففها ضرورة، والتحري القصد مع فكر وتدبر واجتهاد أي يطلب هو الأحرى، والهاء في له للقرآن العزيز وفي تحريه للقارئ أو للقرآن، وحواريا خبر لكان بعد خبر أو حال من ضمير الحري العائد على القارئ، ويجوز أن يكون بتحريه متعلقا بحواريا أي ناصرا له بالتحري أو تكون الباء للمصاحبة أي مصاحبا للتحري فيه هذا كله على أن يكون التقدير إن كان الحري بالأوصاف السابقة والأولى ألا يتعلق قوله بتحريه بالحري كما سبق، وقوله: إلى أن تنبلا متعلق بالتحري أو بحواريا ومعنى تنبل: مات أو أخذ الأنبل فالأنبل أي انتفى ذلك من المعاني التي تحتملها ألفاظ القرآن.
10-
وَإِنَّ كِتَابَ اللهِ أَوْثَقُ شَافِعٍ
... وَأَغْنى غَنَاءً وَاهِباً مُتَفَضِّلاَ
هذا حث على التمسك بالقرآن العزيز وتحريه والعمل بما فيه ليكون القرآن العزيز شافعا له كافيه كل ما يحذر واهبا له متفضلا عليه بما يلقاه من ثواب قراءته واعمل به، وفي الصحيح عن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال قال رسول -صلى الله عليه وسلم: "اقرءوا القرآن فإنه يجيء يوم القيامة شفيعًا لأصحابه، اقرءوا البقرة وآل عمران؛ فإنهما الزهراون تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان تحاجان عن صاحبهما".
وفي كتاب الترمذي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال قال -صلى الله عليه وسلم: "إن سورة في القرآن ثلاثين آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} ".
قال: هذا حديث حسن وأوثق من قولهم شيء وثيق أي محكم متين، وقد وثق بالضم وثاقة وإنما وصفه بذلك؛ لأن شفاعته مانعة له من وقوعه في العذاب وشفاعة غيره مخرجة له منه، بعد وقوعه فيه والغناء بالفتح والمد الكفاية وفعله أفعل كقوله تعالى:
{مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} 1.
فقوله: "وأغنى غنا" أي وأكفى كفاية أي كفاية القرآن العزيز أتم من كفاية غيره فأغنى في هذا البيت ليس فعلا ماضيا ولكنه أفعل التفضيل وبناؤه من غير الثلاثي المجرد شاذ، والقياس أن يقال: أشد غناء أو أتم غناء أو نحو ذلك، ويجوز أن يقال: هو من غني، إذا استغنى، أو من غني بالمكان: إذا أقام به فمعناه على الأول أنه غني من كفاية ما يحذر حامله مليء بها واسع جوده، وعلى الثاني أنه دائم الكفاية مقيم عليها لا يسأم منها ولا يمل، ولا بد من تقدير مضاف محذوف قبل غناء على الوجهين أي وأغنى ذي غناء؛ لأن المراد أن القرآن أثرى ذوي الكفايات وأدومهم عليها، ولك أن تقدر مثل ذلك في الوجه الذي بدأنا به أي والقرآن أكفى ذوي الكفايات