حتى يصح عندك ما أخبرت به بالمعاينة، ولا يبقى معك في ذلك شبهة "فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ" أى صدوع وشقوق ثم أمر تعالى بتكرير البصر فيهن متصفحا
ومتمتعا، هل تجد عيبا أو خللا "يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا"
أي أنك إذا فعلت هذا رفع بصرك بعيدا عن إصابة الملتمس كأنه يطرد عن ذلك طردا بالصغار والإعياء وبالكلال لطول الإجالة والترديد، وأمر برجوع البصر ليكون في ذلك استجمامه واستعداده حتى لا يقع بالرجعة الأولى التي يمكن فيها الغفلة والذهول، إلا أن يحسر بصره من طول المعاودة إذ معنى التنبيه في قوله: "كرتين " التكرير، كقوله لبيك وسعديك، فيحسر البصر من طول التكرار ولا يعثر على شيء من فطور، فلو لم تنطو السورة على غير ما وقع من أوله إلى هنا لكان ذلك أعظم معتبر وأوضح دليل لمن استبصر، إذ هذا الاعتبار بما ذكر من عمومه جار في كل المخلوقات، ولا يستقل بفهم مجاريه إلا آحاد من العقلاء بعد التحريك والتنبيه، فشهادته بنبوة الآتي به قائمة واضحة، ثم قد تكون في السورة دلالات كقوله:
"وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ" وقوله: "أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ"
إلى آخر السورة، وأدناها كاف في الاعتبار، فأنى يصدر نقص عن متصف
ببعض ما هزؤوا به في قولهم: مجنون وساحر وشاعر، "بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ".
فلعظيم ما انطوت عليه سورة الملك من البراهين، أتبعت بتنزيه الآتي به -
- صلى الله عليه وسلم - مما تقوَّله المبطلون، مقسما على ذلك زيادة في التعظيم وتأكيدا في التعزيز والتكريم فقال تعالى: "ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون "
وأنى يصح تَصوُّّر بعد تلك البراهين وقد انقطعت دونك أنظار العقلاء،
فكيف ببسطها وإيضاحها في نسق موجز، ونظم معجز، وتلاؤم حير العقول، وعبارة تفوق كل مقول، تعرف، ولا تدرك، ويستوضحِ سبيلها فلا يسلك "قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ".
فقوله سبحانه (مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ"
جواب لقوله تعالى في آخر