من ذكر الأشقياء بقصة إبليس وختمها بقصة بلعام، وكلاهما كفر على علم، ولم ينفعه ما قد كان حصل عليه، ونبه تعالى عباده على الباب الذي أتي منه على بلعام بقوله سبحانه "ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه " (الأعراف: 176) فأشار سبحانه إلى أن اتباع الأهواء أصل كل ضلال، نبهوا على ما فيه الحزم من ترك الأهواء جلة فقال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ)
فكأن قد قيل لهم اتركوا ما ترون أنه حق واجب لكم وفوضوا في
أمره لله وللرسول فذلك أسلم وأحزم في ردع أغراضكم وقمع شهواتكم، وترك أهوائكم، وقد أُلف في هذه الشريعة السمحة البيضاء حسم الذرائع كثيرا، وإقامة مظنة الشيء مقامه كتحريم الجرعة من الخمر، والنظرة، والخطبة في العدة، واعتداد النوم الثقيل ناقضا، فهذه مظان يقع الحكم فيها على ما هو لا نفسها، ولا بما هي كذا، بل بما هي مظان وروادع لا منع لعينه، أو استوجب حكما ما لعينه وعلته الخاصة به.
ولما أُمر المسلمون بحل أيديهم عن الأنفال يوم بدر، إذ كان المقاتِلة قد هموا
بأخذها، وحدثوا أنفسهم بالانفراد بها، ورأوا أنها من حقهم، وأن من لم يباشر قتالا من الشيوخ، ومن انحاز فئة لهم فلا حق له فيها، ورأى الآخرون أيضا أن حقهم فيها ثابت لأنهم كانوا فئة للمقاتلين، وعدة وملجأ وراء ظهورهم، كان ما أمرهم الله به من تسليم الحكم في ذلك إلى الله ورسوله من باب حسم الذرائع،
لأن تمشية أغراضهم في ذلك - وإن تعلق كل من الفريقين بحجة - مظنة لرياسة النفوس، واستسهال اتباع الأهواء، فأمرهم الله بالتنزه عن ذلك والتفويض فيه لله ولرسوله فإن ذلك أسلم لهم وأوفى لدينهم وأبقى في إصلاح ذات البين
وأجدى في الاتباع بقوله "فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم
.... الآية