اعلم أن الأمر في ذلك كيفما قدر فلابد من رعي التناسب، والتفات
التواصل والتجاذب، فإن كان بتوقيف منه - صلى الله عليه وسلم -، فلا مجال للخصم بعد ذلك التحديد الجليل والرسم، وإن كان مما فوض فيه الأمر إلى الأمة بعده فقد أعمل الكل من الصحابة في ذلك جهده، وهم الأعلياء بعلمه، والمسلم لهم في وعيه وفهمه، والعارفون بأسباب نزول الآيات، ومواقع الكلمات، وإنما ألفوا القرآن على ما
كانوا يسمعونه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا قول مالك ضي الله عنه في حكاية بعضهم عنه، ومالك أحد القائلين بأن ترتيب السور اجتهاد من المسلمين كما تقدم عنه، فكيف مادار الأمر، فمنه - صلى الله عليه وسلم - عرف ترتيب السور، وعلى ما سمعوه منه بنوا
جليل ذلك النظر، فإذاً إنما الخلاف هل ذلك يتوقيف قولي أو بمجرد استناد فعلي بحيث بقى لهم فيه مجال للنظر؟ فهذا موضع الخلاف.
فإن قيل إذَا كانوا قد سمعوا منه - صلى الله عليه وسلم - استقر عليه ترتيبه ففيم إذاً عملوا الأنظار، وأي مجال بقي لهم بعد للاختيار؟
فالجواب أنا قد روينا في صحيح مسلم عن حذيفة رضى الله عنه قال: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فافتتح
بالبقرة، فقلت يركع عند المائة؟ ثم مضى، فقلت يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران
....... الحديث.
فلما كان - صلى الله عليه وسلم - ربما فعل هذا إرادة التوسعة على الأمة، وبيانا لجليل تلك النعمة، كان محلا للتوقف حتى استقر النظر على وعى من كان من فعله الأكثر
فهذا محل اجتهادهم في المسألة والله اعلم.
ثم يشهد لما بنينا كتابنا هذا عليه ما روينا في مصنف ابن أبي شيبة عن
أناس من أهل المدينة قال الحكم: أرى منهم أبا جعفر قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -