يُرِيدُ خَلَقْنَاهُمَا لِأَنَّ مَرْيَمَ لَمْ تُخْلَقْ فِي حِينِ خَلْقِ وَلَدِهَا بَلْ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَهُ وَمُحَالٌ تَعَلُّقُ الْقُدْرَةِ بِجَعْلِ الْمَوْجُودِ مَوْجُودًا فِي حَالِ بَقَائِهِ
فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قرآنا عربيا} ،فَهُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ عَلَى جِهَةِ الِاتِّسَاعِ أَيْ صَيَّرْنَاهُ يُقْرَأُ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ لِأَنَّ غَيْرَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ عِبْرِيٌّ وَسُرْيَانِيٌّ وَلِأَنَّ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ فِي الْكُتُبِ السَّالِفَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى {وإنه لفي زبر الأولين} {إن هذا لفي الصحف الأولى}
وَبِهَذَا احْتَجَّ مَنْ أَجَازَ الْقِرَاءَةَ بِالْفَارِسِيَّةِ، قَالَ: لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا الْمَعْنَى وَالْفَارِسِيَّةُ تُؤَدِّي الْمَعْنَى وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَكَأَنَّهُ نَقَلَ الْمَعْنَى مِنْ لَفْظِ الْقُرْآنِ فَصَيَّرَهُ عَرَبِيًّا
وَأَخْطَأَ الزَّمَخْشَرِيُّ حَيْثُ جَعَلَهُ بِالْخَلْقِ وَهُوَ مَرْدُودٌ صِنَاعَةً وَمَعْنًى أَمَّا الصِّنَاعَةُ فَلِأَنَّهُ يَتَعَدَّى لِمَفْعُولَيْنِ وَلَوْ كَانَ بِمَعْنَى الْخَلْقِ لَمْ يَتَعَدَّ إِلَّا إِلَى وَاحِدٍ وَتَعْدِيَتُهُ لِمَفْعُولَيْنِ وَإِنِ احْتَمَلَ هَذَا الْمَعْنَى لَكِنْ بِجَوَازِ إِرَادَةِ التَّسْمِيَةِ أَوِ التَّصْيِيرِ عَلَى مَا سَبَقَ وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلَوْ كَانَ بِمَعْنَى خَلَقْنَا التِّلَاوَةَ الْعَرَبِيَّةَ فَبَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْخِلَافُ فِي حُدُوثِ مَا يَقُومُ بِأَلْسِنَتِنَا وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ الَّذِي هُوَ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ وَخَبَرُهُ فَعِنْدَنَا أَنَّهُ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ وَهُوَ قَدِيمٌ
وَقَالَتِ: الْقَدَرِيَّةُ إِنَّهُ صِفَةُ فِعْلٍ أَوْجَدَهُ بَعْدَ عَدَمِهِ وَأَحْدَثَهُ لِنَفْسِهِ فَصَارَ عِنْدَ حُدُوثِهِ مُتَكَلِّمًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَظَهَرَ أَنَّ الْآيَةَ عَلَى تأويله ليس فيها تضمن لِعَقِيدَتِهِ الْبَاطِلَةِ
وَقَالَ: الْآمِدِيُّ فِي أَبْكَارِ الْأَفْكَارِ الْجَعْلُ فِيهِ بِمَعْنَى التَّسْوِيَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ جعلوا القرآن عضين} أَيْ يُسَمُّونَهُ كَذِبًا