وأما ما ذكروه من تقديم موسى على هارون في موضع، وتأخيره عنه في
موضع لمكان السجع، ولتساوي مقاطع الكلام، فليس بصحيح، لأن الفائدة
عندنا غير ما ذكروه.
وهي: أن إعادة ذكر القصة الواحدة بألفاظ مختلفة تؤدي معنى
واحداً، من الأمر الصعب، الذي تظهر فيه الفصاحة، وتبين فيه البلاغة.
وأعيد كثير من القصص في مواضع مختلفة، على ترتيبات متفاوتة، ونبهوا
بذلك على عجزهم، عن الإتيان بمثله مبتدأ ومكرراً.
ولو كان فيهم تمكن من المعارضة، لقصدوا تلك القصة، فعبروا عنها
بألفاظ لهم تؤدي تلك المعاني ونحوها، وجعلوها بإزاء ما جاء به، وتوصلوا
بذلك إلى تكذيبه وإلى مساواته فيما جاء به، كيف وقد قال لهم: (فليأتوا
بحديث مثله إن كانوا صادقين) .
فعلى هذا يكون القصد بتقديم بعض الكلمات وتأخيرها، إظهار
الِإعجاز على الطريقين جميعاً، دون السجع الذي توهموه.
هذا ما قاله في سر التكرار، وتبعه عليه كل من رأينا كلامه في
هذا.
وقد بينت في كتابي "نظم الدرر" أن الأمر على غير هذا، وأن مقصد
القرآن مما هو في العلو عن هذا الغرض بمراتب لا تنالها يد المتناول، ويقصر
عن عليائها كل متطاول.
وذلك أن كل سورة لها مقصد معين - كما سيوضحه هذا الكتاب، إن
شاء الله تعالى - تكون جميع جمل تلك السورة دليلاً على ذلك المقصد.