وقيل: لو لم يبتل العقل الذي هو أشرف البدن لاستمر العالم في أبهة العلم على التمرد، فبذلك يستأنس إلى التذلل بعز العبودية، والتشاغل به هو موضع خضوع العقول لبارئها استسلاما واعترافاً بقصورها.
وفي ختم الآية بقوله تعالى: (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) ، تعريض بالزائغين، ومدح للراسخين - يعني من لم يتذكر ويتعظ ويخالف هواه فليس من ذوي العقول، ومن ثم قال الراسخون: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا
... )
إلى آخر الآية، فخضعوا لبارئهم لاستنزال العلم اللَّدني بعد أن استغاثوا به من الزيغ النفساني.
وقال الخطابي: المتشابه على ضربين: أحدها ما إذا رد إلى الحكم واعتُبر به
عرف معناه.
والآخر ما لا سبيل إلى الوقوف على حقيقته، وهو الذي يتبعه أهل
الزيغ فيظنون تأويله، ولا يبلغون كُنْهَه، فيرتابون به فيفْتَتِنون.
وقال ابن الحصار: قسّمَ اللهُ آيات القرآن إلى محكم ومتشابه، وأخبر عن
المحكمات أنها أم الكتاب، لأنه إليها تردّ المتشابهات، وهي التي تُعتمد في فهم
مراد الله من خلقه، أي في كل ما تعبّدهم به من معرفته وتصديق رسله، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه.
وبهذا الاعتبار كانت أمهات.
ثم أخبر عن الذين في قلوبهم زيغ أنهم هم الذين يتبعون ما تشابه منه.
ومعنى ذلك أن من لم يكن على يقين من المحكمات، وفي قلبه شك واسترابة
كانت راحته في تتبع المشكلات المتشابهات، ومراد الشارع منا التقدم إلى فهم المحكمات، وتقديم الأمهات، حتى إذا حصل اليقين، ورسخ العلم لم تبال بما أشكل عليك.
ومراد هذا الذي في قلبه زيغ التتبع إلى المشكلات، وفهم المتشابه قبل فهم
الأمهات، وهو عكس المعقول والمعتاد والشروع، ومثَلُ هؤلاء من المشركين
الذين يقترحون على رسلهم آيات غير الآيات التي جاءو بها، ويظنون أنهم لو
جاءتهم آياتٌ أخر آمنوا عندها جهلاً منهم، وما علموا أن الإيمان بإذن الله
تعالى. انتهى.