فالجواب أنه لم يشاوره ليرجع إلى رأيه، ولكن ليعلم ما عنده، لأنه بشّر
بالحلم، وأيضاً ليوطًن الولدُ نفسه على الصبّر، ويحتسب، فجاوبه عليه السلام بأحسن جواب، ألا تراه قال له: يا أبت، خذْ بناصيتي، واجلس على كتفي لئلا أوذيك إذا أصَابني حَرّ الحديد.
ففعل إبراهيم، فلما أمَرَّ السكين على حلقه انقلبت السكين، فلحرْمة تعفير وجهه رُفِع عنه الذّبح، فالمؤمن الذي عفّر وجهه في التراب سنين عديدة أتراه يحرقه بالنار؟!!
ولما سأل إبراهيم الولدَ الصالح وبُشِّر به أمر بذبحه، ليعلم أنَّ هذا الولد هو
الذي طلبه، وكذلك سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - سأل اللهَ تعالى صلاحَ أمته في وقت وفاته، وطلب منه هو الخليفةَ بعده عليهم، فأجاب الله دعاءه، وأراه سؤاله فيهم: إسماعيل استسلم لقضاء ربه، ومِنْ عادة الصبيان الجزَغ من الألم، ومِن طبع الحديد القَطْع، فلما صبر وغيّر عادته لأجل الله غَيَّر طَبع الحديد لأجله، ولم يقطع كذلك حال المؤمن مع الله، إذا صبر واستسلم للقضاء غيَّر الله طبع العوائد عليه وأثابه الحُسْنى.
وقيل: إنه لما صُرع للذّبح كشف الله له عن الجنة حتى يسهل عليه اللقاءُ مع
ربه، وكذلك المؤمن في حالة الموت يكشف اللَّهُ له على ما أعدَّ له من النعيم، فيسهل عليه خروج روحه.
قال - صلى الله عليه وسلم -: " لا يدخل أحد الجنة إلا رأى مقعده من
النار لو أساء ليزداد شكراً، ولا يدخل أحد النار إلا رأى مقعده من الجنة لو
أَحسن ليكون عليه حَسرة ".
قيل: لما أُتي إبراهيم بالكبْش يَدَاه مشدودتان إلى قَرْنه، لأن إسماعيل قال
له، أَطلقْ لي رِجْلاً واحدة لتعلمَ الملائكة أني فعلْتُ ذلك عن رِضًى مني وطِيب
نفس، وأني لم أجزع، فأُتي بالكبش كذلك.
وأنتَ يا محمدي لو وافقْتَ ربك فيما أمركَ به لرأيتَ العجائب من لطفه في
موافقة جميع المخلوقات لك، لكنّك خالفْتَ فاختلفت عليك الأمور، ولذلك
قال بعضهم: إني لأعلم حالي مع ربي حتى في غلامي ودابَّتي.