والإنصاف بينها حتى إنه ليقتل منها على باب المنفذ كلّ ما وقع على نجاسة
لقضيْتَ من ذلك العجب إنْ كنْتَ بصيراً في نفسك، وفارغاً من هَمِّ بطنك
وفَرجِك وشهوات نفسك في معَاداة أقرانك وموالاة إخوانك، ثم دع عنك جميع ذلك وانظر إلى بنيانها من الشمع، واختيارها من جميع الأشكال المسدس، فلا تبني بيتها مستديرا ولا مُرَبّعاً ولا مخمَّساً، بل مسدساً لخاصية في ميل المسدس يقصر فَهم الهندسين عن دَرك ذلك، وهو أنَّ أوسع الأشكال وأحْوَاها المستدير، وما يقرب منه، فإن المربع يخرج منه زوايا ضائعة، وشكل النحل مستدير مستطيل، فتركَ المرَبّع حتى لا تبقى الزوايا فارغة، ثم لو بناها مستديرة لبقيت خارجَ البيوت فُرَجٌ ضائعة، فإن الأشكال المستديرة إذا اجتمعت لم تجتمع متراصَّة، ولا شكل من الأشكال ذوات الزوايا يقرب في الاحتواء من المستدير، ثم تتراص الجملة منه بحيث لا يبقى بعد اجتماعها فُرْجة إلا المسدس وهذه خاصية هذا الشكل.
فانظر كيف ألهمَ اللَّهُ تعالى هذا النحل على صِغَر جرمه لُطْفاً به وعنايةً
بوجوده فيما هو محتاج إليه ليتهنّأ عيشه، فسبحانه! ما أعظم شأنه وأوسع لطفه وامتنانه!
ولو ذكرنا منافع النحل، وما أوْدع فيها لاحتاج إلى مجلد، ولذلك مثّل - صلى الله عليه وسلم - المؤمن بالنحلة إن صاحَبْتَه نفعك، وإن سارَرته نفعك، وإن جالسته نفعك.
وكذلك النحلة على ما فيها من منافع.
قال ابن الأثير: وجه المشابهة من المؤمن في النحلة حِذْق النحل في فِطنته وقلة
أذاه وحقارته ومنفعته وقناعته وسَعْيه في الليل وتنزهه عن الأقذار، وطيب
أَكْله، لأنه لا يأكل من كسب غيره، وتحوله وطاعته لأميره، وإنَّ للنحل آفات تقطعه عن عمله، منها الظلمة، والغيم، والريح، والدخان، والماء، والنار، وكذلك المؤمن له آفات تفتره عن عمله ظُلمة الغفلة، وغَيْم الشك، وريح الفتنة، ودخان الحرام، وماء السعية، ونار الهوى.