. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
المنتقى
فَوْدَيْهِ لِيَتِمَّ اسْتِيعَابُ الرَّأْسِ فِي الْمَرَّتَيْنِ وَدَلِيلُنَا مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ أَنَّهُ مَمْسُوحٌ فِي الطَّهَارَةِ فَلَمْ يُسَنَّ فِيهِ التَّكْرَارُ كَالتَّيَمُّمِ وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ.
١ -
(مَسْأَلَةٌ) :
مَسْحُ شَعْرِ الرَّأْسِ أَصْلٌ فِي الطَّهَارَةِ وَلَيْسَ بِبَدَلٍ فَمَنْ مَسَحَ رَأْسَهُ ثُمَّ حَلَقَهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إعَادَةُ الْمَسْحِ خِلَافًا لِعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ هَذَا ظَاهِرٌ مِنْ الْأَصْلِ فَكَانَ أَصْلًا فِي الطَّهَارَةِ كَالْبَشَرَةِ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ «غَسَلَ رِجْلَيْهِ» يَقْتَضِي وُجُوبَ غَسْلِهِمَا لِأَنَّ أَفْعَالَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْوُجُوبِ وَبِهَذَا قَالَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَدَاوُد إنَّ الْفَرْضَ التَّخْيِيرُ فِي الْمَسْحِ وَالْغَسْلِ وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْجُمْهُورُ قَوْله تَعَالَى {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} المائدة: ٦ وَهِيَ قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيِّ وَعَاصِمٍ مِنْ رِوَايَةِ حَفْصٍ عَنْهُ فَإِنْ قِيلَ إنَّهُ إذَا وَجَبَ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ لِقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِالنَّصْبِ وَجَبَ مَسْحُهَا لِقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِالْجَرِّ فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَهَبْتُمْ إلَيْهِ مِنْ التَّخْيِيرِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ وَفِي الْأَمْرِ بِالْغَسْلِ نَهْيٌ عَنْ الْمَسْحِ كَمَا أَنَّ فِي الْأَمْرِ بِالْمَسْحِ نَهْيًا عَنْ الْغَسْلِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّ مُجَرَّدَ الْأَمْرِ بِهِمَا يَقْتَضِي التَّخْيِيرَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الْأَمْرَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مُعَيَّنٍ وَيُصْرَفُ تَعَيُّنُهُ إلَى الْمَأْمُورِ بِهِ فَكِلَا الْقِرَاءَتَيْنِ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ مِمَّا تَدَّعُونَهُ مِنْ التَّخْيِيرِ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْقِرَاءَتَيْنِ جَمِيعًا يَنْفِي التَّخْيِيرَ بَيْنَهُمَا فَإِنْ قِيلَ فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ وَالنَّهْيَ عَنْهُ إذَا وَرَدَا عَلَى وَجْهٍ فَلَمْ يُعْلَمْ الْآخَرُ مِنْ الْأَوَّلِ فَيُحْمَلُ أَنَّهُ نَاسِخٌ لَهُ حَمْلًا عَلَى التَّخْيِيرِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ وَلَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ بَلْ إذَا وَرَدَ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ وَالنَّهْيُ عَنْهُ عَلَى وَجْهٍ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ عُلِمَ الْآخَرُ مِنْهُمَا أَوْ لَمْ يُعْلَمْ وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَى التَّارِيخِ أَوْ إلَى أَنْ يُنْظَرَ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ إنْ جُهِلَ أَمْرُهُ عَلَى اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ مَتَى تَمَكَّنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَهَاتَانِ الْقِرَاءَتَانِ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بَلْ تُحْمَلُ قِرَاءَةُ الْجَرِّ عَلَى الْجِوَارِ وَهُوَ كَثِيرٌ سَائِغٌ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} الواقعة: ١٧ {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ} الواقعة: ١٨ إلَى قَوْلِهِ {وَحُورٌ عِينٌ} الواقعة: ٢٢ {كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} الواقعة: ٢٣ وَالْحُورُ الْعِينُ لَا يُطَافُ بِهِنَّ وَلَكِنْ يَطُفْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ كَالْوِلْدَانِ.
وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ
حَفِيفُ شِوَاءٍ أَوْ قَدِيدٍ مُعَجَّلِ
وَقَالَ النَّابِغَةُ
لَمْ يَبْقَ إلَّا أَسِيرٌ غَيْرُ مُنْفَلِتٍ ... أَوْ مُوثَقٍ فِي حِبَالِ الْقِدِّ مَسْلُوبِ
فَخَفَضَ أَوْ مُوثَقٍ عَلَى الْجِوَارِ فَإِنْ قِيلَ فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا يَلْزَمُكُمْ أَيْضًا فَإِنَّ قِرَاءَةَ النَّصْبِ يَصِحُّ أَنْ يُحْمَلَ الْعَطْفُ عَلَى مَوْضِعِ الرَّأْسِ لِأَنَّ مَوْضِعَهُ النَّصْبُ وَذَلِكَ مَشْهُورٌ شَائِعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَالَ الشَّاعِرُ
مُعَاوِي إنَّنَا بَشَرٌ فَاسْجَحْ ... فَلَسْنَا بِالْجِبَالِ وَلَا الْحَدِيدَا
فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا الِاعْتِرَاضَ لَا يَجُوزُ لَكُمْ إيرَادُهُ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْ الْغَسْلِ وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ بِهِ وَجَوَابٌ ثَانٍ وَهُوَ أَنَّ الْعَطْفَ عَلَى الْمَوْضِعِ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا كَانَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ يَتَعَدَّى بِحَرْفِ جَرٍّ وَفِي مَعْنَى مَا يَتَعَدَّى بِغَيْرِ حَرْفِ جَرٍّ كَقَوْلِك مَرَرْت بِزَيْدٍ وَعَمْرًا فَمَعْنَاهُ لَقِيَتْ زَيْدًا وَعَمْرًا وَأَمَّا قَوْلُهُ {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} المائدة: ٦ فَإِنَّهُ لَا يَتَعَدَّى إلَّا بِحَرْفِ جَرٍّ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى مَوْضِعِهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا مَعْنَى ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ مَسْحِ الرَّأْسِ.
وَجَوَابٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّ الْعَطْفَ عَلَى الْمَوْضِعِ لَا يَجُوزُ إلَّا حَيْثُ لَا يُشْكِلُ وَذَلِكَ يُجَوِّزُ أَنْ تَقُولَ مَرَرْت بِزَيْدٍ وَعَمْرًا لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي الْكَلَامِ مَا يَصِحُّ أَنْ يُعْطَفَ عَلَيْهِ عَلَى اللَّفْظِ