سورة يونس ١٠: ٥٤
{وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِى الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}:
المناسبة: جاءت هذه الآية بعد قوله: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ}؛ أي: ناجين من العذاب، وكذلك: لا شفاعة لكم، ولن يُقبل منكم فداء.
{وَلَوْ أَنَّ}: الواو: استئنافية؛ لو: شرطية؛ تفيد النّدم والحسرة؛ أن: للتوكيد.
{لِكُلِّ}: اللام: لام الاختصاص، والتّوكيد.
{نَفْسٍ ظَلَمَتْ}: ظلمت بالشّرك، أو الكفر، أو المعاصي، أو تعدَّت على غيرها، ولم تتبْ.
{مَا}: بمعنى: الّذي، وما: أوسع شمولاً من: الّذي.
{الْأَرْضِ}: من ذهب، أو فضة، أو كنوز.
{لَافْتَدَتْ بِهِ}: اللام: لام التّوكيد؛ افتدت به: قدَّمته فدية لها من العذاب يوم القيامة، والفداء: هو ما يُقدَّم من مال، وغيره من البدائل؛ لتخليص المفدى؛ مثل: فداء الأسرى، كقوله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} الصافات: ١٠٧.
ولو أمعنَّا في النّظر في هذه الآية: نجد أنّ الله سبحانه لم يقل: جميعاً، ومثله معه، واكتفى بقوله: ما في الأرض؛ بينما في آيات أخرى ذكر جميعاً، ومثله معه، كما هو الحال في الآية (٤٩) من سورة الزّمر: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ}، لم يذكر في آية يونس جميعاً، ومثله؛ لأنّها جاءت في سياق النّفس الواحدة؛ فقال: لكلّ نفس، ولم يقل: للذين ظلموا (كجمع)، والنّفس الواحدة مستحيل أن تملك ما في الأرض جميعاً، ومثله معه، ولذلك حذف جميعاً، ومثله ومعه، بينما في آية الزّمر وغيرها من الآيات المشابهة ذكر الّذين ظلموا؛ فهؤلاء ثرواتهم وفدائهم سيكون أكثر من النّفس الواحدة، وأعظم، ومع ذلك لا يقبل منهم فداء، ولا شفاعة.
وهناك نقطة أخرى: وهي قوله: لافتدوا به في سورة الرّعد، الآية (٣٨)، والزّمر، الآية (٤٧)؛ بينما في سورة المائدة، الآية (٣٦) قال تعالى: ليفتدوا به، السّبب في تغيير صيغة الفعل: هو أنّ قوله: لافتدوا به: الآيات تتحدث عنهم، وهم في الآخرة، وبعد أن تم حسابهم، ولقاء الله سبحانه.
أما قوله: ليفتدوا به: فالآية تتحدث عنهم، وهم ما زالوا في الدّنيا، وقبل لقاء الله سبحانه في المستقبل.
والخلاصة: لافتدوا به: تأتي في سياق الآخرة، وليفتدوا به: تأتي في سياق الدّنيا.
{وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ}: وأسروا: الواو: عاطفة، أسروا النّدامة؛ أيْ: أخفوا النّدامة، والنّدامة: من النّدم، وهو ما يجد الإنسان في نفسه من الأسف، والحسرة، والحزن إذا فاته فعل شيء فيه خير، أو فعل فعلاً ضاراً به، ومن المفسرين من قال: أسروا النّدامة؛ أيْ: أظهروها حين رأوا العذاب؛ فأسررت الشّيء قد تعني: أخفيته، وقد تعني: أظهرته من أفعال الأضداد.
{لَمَّا}: ظرف زماني بمعنى: حين.
{رَأَوُا الْعَذَابَ}: لأنهم حين يرون العذاب يبهتوا؛ أيْ: ينقطعوا عن الكلام من هول، وشدة الموقف.
{وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}: وقضي بينهم بالقسط؛ أيْ: حكم الله بين الظّالمين، وفصل بينهم بالعدل، والحقّ، وقيل: القسط: هو القضاء، والعدل + تنفيذه (إقامته)، نحكم ونقضي بالقسط لكلّ نفس، وقد تعني: القضاء بين الأتباع، والمتبوعين، وقد تعني: القضاء بين الظّالمين أنفسهم، أو المشركين، أو الكفرة، أو الكل.
ولو نظرنا إلى هذه الآية (٥٤)، والآية (٤٧) من نفس السورة: نجد كلاهما انتهى بقوله سبحانه: {وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}: وليس هذا تكرار؛ لأنّ الآية (٤٧): جاءت في سياق القضاء بين الأنبياء، ومكذبيهم، والآية (٥٤): جاءت في سياق القضاء بين الظّالمين أنفسهم، أو الظّالمين والمظلومين.