سورة هود ١١: ١٢
{فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَكِيلٌ}:
{فَلَعَلَّكَ}: الفاء: استئنافية؛ لعلك: استفهام فيه معنى التّحذير، والنّهي والأصل في لعل: للترجي المتوقع.
{تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا}: أن: حرف مصدري؛ يفيد التّعليل، والتّوكيد.
{تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ}: أيْ: تتردَّد، ولا ترغب في تلاوة بعض الآيات على أهل مكة من المشركين، أو تبليغهم إياها؛ مخافة إعراضهم، وإنكارهم، واستهزائهم بالآيات الّتي تتعلَّق بأمر الآلهة، والتنديد بها، وبعبادتهم إياها.
{وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ}: ضائق: اسم فاعل يدل على ضيق عارض أو عابر، ويعني: الشعور بالحرج، وانقباض في الصدر لعدم سماعهم لآيات القرآن والإعراض عنه، أو أن يقولوا منكراً من القول وزوراً.
{بِهِ}: تعود على القرآن.
مخافةَ {أَنْ يَقُولُوا}: أن: للتّعليل، والتّوكيد؛ لئلا يقولوا، أو كراهة أن يقولوا.
{يَقُولُوا}: جاءت بصيغة المضارع؛ لتدل على التّجدُّد، والتّكرار، والاستمرار في أسئلتهم الّتي لن تنتهي.
{لَوْلَا}: أداة حضٍّ، وتمنٍّ، وحثٍّ.
{أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ}: الكنز: هو المال المجمع، والمدخر، والكنز: يعني: الذّهب، أو الفضة، والكنز: يعني: المال المخفي.
{أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ}: أو: للتخيير، جاء معه ملك: من الملائكة، ولم يحدِّدوا شكله، ملك ينزل على صورة بشر، أو ملك يأتي بأجنحته، وعلى صورة ملك من الملائكة، وإذا نزل بصورة بشر كيف سيعرفون أنّه ملك، وعندها يشكُّون في أمره، وماذا لو أنزلنا معك ملك، أو أنزلنا عليك كنز، ولم يؤمنوا ماذا سيحدث لهم، وقد ردّ الله سبحانه على سؤالهم هذا في سورة الأنعام، آية (٨-٩). {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِىَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ} الأنعام: ٨.
فلا تدعْ ذلك يجرك إلى ترك بعض ما يوحى إليك من ربك، أو تركن إليهم شيئاً قليلاً طمعاً في إيمانهم، بل اصبر على دعوتك، وما أرسلت به، ولا يضيق صدرك بما يقولون، والأصل في التّقدير: أن يحدث ضيق الصّدر أوّلاً، ثمّ التّرك ثانياً؛ أيْ: ضائق به صدرك: تارك بعض ما يوحَى إليك؛ فقدَّم التّرك على ضيق الصّدر؛ لأنّ أمر التّبليغ والدّعوة بشكل كامل أهم من ضيق الصّدر، ولذلك جاء بكلمة ضائق به صدرك، وضائق اسم فاعل يدل على ضيق مؤقت، وعارض.
إذا حدث وضاق صدرك بما يقولون فهذا أمر مؤقَّت، أو أمر عارض سيزول سريعاً.
ولو قال بدلاً من ضائق به صدرك: ضيِّق به صدرك؛ لدلَّ ذلك على أنّ ضيق الصّدر صفة ثابتة في رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهذا ليس صحيح.
وانتبه إلى قوله: ضائق به صدرك أن يقولوا، ولم يقل: وضائق بما يقولون صدرك؛ فقد قدَّم صدر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أقوالهم؛ لأن صدر الرّسول -صلى الله عليه وسلم- هو أهم مما يقولون.
وكذلك جاء بكلمة (تاركٌ): بالتّنوين، وليس (تاركُ) بالضّم؛ لأنّ (تاركٌ) بالتّنوين: يدل على اسم الفاعل، وتعني: في الحال، والمستقبل؛ بينما تاركُ: تدل على أنّ التّرك حدث، وانتهى، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يترك شيئاً لم يبلِّغه، فجاء بصيغة الحال، والمستقبل؛ أي: احذر أن تترك بعض ما يوحَى إليك من ربك في الحال، والمستقبل؛ كقوله: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} المائدة: ٤٩.
{إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ}: إنما: كافة مكفوفة؛ تفيد التّوكيد. نذير: من الإنذار، وهو الإعلام مع التّحذير، والتّرهيب. ارجع إلى سورة البقرة، آية (١١٩)؛ للبيان.
وليس عليك واجب الرّد على أسئلتهم، أو اقتراحاتهم، ولم يقل: إنما أنت نذير، وبشير، أو بشير، ونذير؛ لأنّهم ليسوا من أهل البشارة؛ حين يقولون تلك الأقوال الدّالة على تكبُّرهم وعنادهم، فلا يهمك إذا استجابوا، أم لم يستجيبوا إنما أنت نذير.
{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَكِيلٌ}: والله سبحانه المتولي، والمدبر لكلّ أمر، وشيء، والحافظ، والمعين، والقائم بأمور العباد، وتقديم على كلّ: تفيد الحصر، والقصر؛ فهو الوكيل على كلّ شيء، ولا أحد غيره.
الفرق بين كلمة ضائق، ويضيق صدرك، ولا تك في ضيق مما يمكرون:
أوّلاً: كلمة ضائق به صدرك: ضائق اسم فاعل (قاعدة: وإذا أردت الأمر العارض استعملت اسم الفاعل)، إذن: ضائق تعني: ضيق عارض، بسبب موقف ما عارض، أو موقف معين، أو مرحلة معينة.
ثانياً: كلمة ضيق: صفة مشبهة تدل على الثّبوت، والدّوام وحاشا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يكون ضيق الصّدر؛ فقد شرح الله صدره؛ فقال: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} الشرح: ١.
ثالثاً: واصبر وما صبرك إلا بالله، ولا تحزن ولا تك في ضيق مما يمكرون؛ أيْ: لا يضيق صدرك بأدنى الضّيق، وهنا تدل على درجة الضّيق؛ بسبب ما يمكرون.